مباحث العقيدة الأشعرية: الإيمــان

أضيف بتاريخ 01/06/2023
الأشعرية


كانت مشكلة الإيمان من المشكلات الكلامية الشائكة التي أثير حولها نقاش واسع تختلط فيها السياسة بالدين والدين بالسياسة، وتفتقر في كثير من الأحيان إلى الضبط المنهجي والخلق العلمي. حتى أصبح هذا الموضوع معيارا تصنف على أساسها الفرق الإسلامية.

كان الإرجاء تهمة تلصق بكل من يفسر الإيمان بمعزل عن العمل. وقد كان شعار المرجئة: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. ( 1) ولا يزال هذا الموضوع الشائك يستأثر باهتمام الجماعات الإسلامية المعاصرة. والباحثين في الشأن العقدي الإسلامي.

وما دعاوى التكفير والتفسيق والتبديع والتجهيل...إلا نتيجة طبيعية لتفسير الإيمان. لأن من يفسر الإيمان بالطاعة كما هو مذهب الخوارج لا يتردد في اعتبار كل تارك للعمل كافرا.

إن تحديد مفهوم الإيمان واستحضار حمولته التاريخية التي قام عليها الفكر الخارجي قديما يجعلنا ندرك بجلاء الأسس العقدية لظاهرة الإرهاب قديما وحديثا، لأن تفسير الإيمان بالعمل دون اعتبارات أخرى، ينتج عنه حتما عند من قصر نظره، أن ترك العمل كفر على الإطلاق ...ومن ثم فقد يبيح صاحب هذا التفسير المنقوص قتل المسلمين، ممن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. بحجة أنهم كفار، وفي أحسن الأحوال الحكم بأنهم غير مؤمنين لتركهم العمل...
لقد أدرك أئمة العقيدة الأشعرية خطورة هذا التفسير والنتائج التي يمكن أن يفضي إليها، فكانت لهم مقالة متميزة في تقريب مفهوم الإيمان، تحافظ على مضمونه الشرعي من جهة، ثم تحافظ على حياة الإنسان المسلم وكرامته باعتباره مخاطبا بتمثل حقيقة الإيمان في جميع أحواله من جهة أخرى.

لقد عاشت الأمة الإسلامية تجربة تاريخية بعيدة كل البعد عن دعاوى التكفير والإرهاب... وهذا راجع أساسا إلى سيادة الفكر الأشعري السني التنويري، وانتصار جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنفية وفضلاء الحنابلة بوصفهم شخصيات فاعلة في المجتمع إلى هذا الفكر الذي يجعل من بين أهدافه الأساسية الحفاظ على حياة الإنسان المعتقد، والسمو به إلى الدرجات العلا.

إن العقيدة إذا لم تكن تبعث على الأمل والرغبة في الحياة، وحب الخير والجمال والإقبال على فعل الطاعات – وهذه المقاصد السامية هي يسعى إليها الفكر الأشعري إلى التبشير بها- جذيرة بالترك والإهمال.

مفهوم الإيمان:

الإيمان في اللغة هو مطلق التصديق، والتصديق معناه الإذعان للحكم وقبوله والاعتراف به. والإيمان مأخوذ من الأمن وهو ضد الخوف والخيانة ... (2 )

أما الإمام أبو الحسن الأشعري فيفسر الإيمان بتفسيرين:

التفسير الأول: يتابع فيه أصحاب الحديث وأهل السنة في قولهم إن الإيمان:" قول وعمل يزيد وينقص...( 3) بل إنه يفصح عن هذا المذهب بقوله ": ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض... وأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص..."(4 )
كما يفسر الإمام الأشعري الزيادة والنقصان في هذا الموضع بالزيادة في مرتبة العلم والبيان... وليس الجهل والشك ...(5 )

التفسير الثاني: يذهب فيه إلى أن الإيمان هو التصديق، وهو يعتمد في هذا التفسير على الوضع اللغوي، فيقول: إن قال قائل: ما الإيمان عندكم بالله تعالى؟ قيل له: هو التصديق بالله، وعلى ذلك إجماع أهل اللغة التي نزل بها القرآن. قال تعالى} وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ{ [إبراهيم: 4] وقال} بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ{ [الشعراء: 195]. فلما كان الإيمان في اللغة التي أنزل الله تعالى بها القرآن هو التصديق، وقال الله تعالى} وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ{ [يوسف: 17] أي بمصدق لنا، وقالوا جميعا: فلان يؤمن بعذاب القبر والشفاعة، يريدون يصدق بذلك، فوجب أن يكون الإيمان هو ما كان عند أهل اللغة إيمانا وهو التصديق..."( 6 )

وهذا التفسير هو الذي يشير إليه مؤرخ المدرسة الأشعرية أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، فيقول: " قال – أي الأشعري- الإيمان هو التصديق بالجنان، وأما القول باللسان والعمل بالأركان ففروعه. فمن صدق بالقلب، أي أقر بوحدانية الله تعالى، واعترف بالرسل تصديقا لهم فيما جاءوا به من عند الله تعالى بالقلب صح إيمانه، حتى لو مات عليه في الحال، كان مؤمنا ناجيا، ولا يخرج من الإيمان إلا بإنكار شيء من ذلك. (7 )

ويقول الإمام محمد بن الحسن بن فورك، وهو الخبير بمذهب الإمام الأشعري:"... وكان يقول – الإمام الأشعري- قد اتفقنا مع جميع المخالفين لنا في الإيمان، أن معنى الإيمان هو التصديق في اللغة قبل ورد الشريعة، واتفقنا أن القرآن نزل على لغتهم، فوجب أن يتعرف معناه منها ...

وكان يقول: إن الإيمان هو تصديق القلب، وهو اعتقاد المعتقد صدق من يؤمن به، وكان لا يجعل إقرار اللسان مع إنكار القلب إيمانا على الحقيقة، وكان لا يسمي المنافق مؤمنا على الحقيقة ..." (8 )

وقد كان مقصود الإمام الأشعري من هذا التفسير هو الإجابة عن سؤال عقدي خطير يتعلق بمصير الفاسق من أهل القبلة هل هو مؤمن أم لا ؟

وقد كان رأي الإمام الأشعري في هذا الموضع: أنه مؤمن بإيمانه فاسق بفسقه وكبيرته، مخالفة للتيار الاعتزالي الذي يجعله لا مؤمنا ولا كافرا، وهذه بدعة في الدين، وضدا على التيار الخارجي الذي لم يتردد دعاته في تكفيره، وهذا غلو وتطرف ممقوت.

وقد تابع الإمام الباقلاني سلفه الأشعري في القول:" بأن حقيقة الإيمان هو التصديق، وأن محله القلب، وهو أن يصدق القلب بأن الله واحد، وأن الرسول حق، وأن جميع ما جاء به الرسول حق، وأن جميع ما جاء به الرسول حق، وما جاء يوجد من اللسان وهو الإقرار وما يوجد من الجوارح وهو العمل، فإنما ذلك عبارة عما في القلب ودليل عليه".(9 )
وتفسير الإيمان على هذا النحو هو الذي انتهت إليه العقيدة الأشعرية في صياغتها النهائية.

يقول أحد الشراح الأشاعرة:" ... وفسر جمهور الأشاعرة والماتريدية... الإيمان بالتصديق المعهود شرعا، وهو تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به وعلم من الدين بالضرورة... والمراد بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الإذعان لما جاء به والقبول له...(10 )


--------------------------------------------
1- الملل والنحل، لأبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني 1/139 تحقيق محمد سيد كيلاني، طبعة دار المعرفة، بيروت لبنان، الطبعة الثانية بالوفسيت 1975.
2 - القاموس المحيط، مجمد الدين بن محمد بن يعقوب الفيروزبادي، فصل الهمزة، باب النون 4/199 طبعة دار الجيل.
3 - مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، للإمام الأشعري، ص: 290، في حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة، ص: 290، عني بتصحيحه هلموت ريتر الطبعة الثالثة، 1980
4- الإبانة عن أصول الديانة، للإمام الأشعري ص: 27 بتحقيق د. فوقية حسين، طبعة دار الكتاب، للنشر والتوزيع، القاهرة.
5 - رسالة إلى أهل الثغر، للإمام الأشعري، ص: 272 ، تحقيق عبد الله شاكر محمد الجندي، مكتبة العلوم والحكم، الطبعة الأولى 1977، المدينة المنورة
6 - اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، للإمام الأشعري، ص: 154، تحقيق، الشيخ عبد العزيز، عز الدين السيروان، دار لبنان، للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1987
7 - الملل والنحل للشهرستاني، 1/101 تحقيق محمد سيد كيلاني، طبعة دار المعرفة بيروت – لبنان، الطبعة الثانية بالاوفست1975
8 - مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري: تأليف، الإمام محمد بن فورك، ص: 152، تحقيق وضبط، د/ عبد الرحيم السايح، مكتبة الثقافة الدينية القاهرة، الطبعة الأول 2005
9 - الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، للإمام الباقلاني، ص: 55 طبعة مكتبة الحانجي القاهرة، الطبعة الثالثة، 1993
10 - شرح جوهرة التوحيد، للإمام الباجوري، تحقيق محمد أديب كيلاني، وعبد الكريم تتان، راجعه فضيلة الأستاذ عبد الكمريم الرفاعي.