مباحث العقيدة الأشعرية: الصفات الخبرية لله تعالى

أضيف بتاريخ 10/08/2021
بوابة أقطاب


المراد بالصفات الخبرية مجموع الصفات السمعية التي مصدرها السمع فقط، أو ورود خبر الصادق بها، أو ما كان طريق إثباتها الكتاب والسنة فقط دون استناد إلى نظر عقلي كصفة الوجه واليدين والعينين...

 

تنقسم الصفات الخبرية إلى قسمين:
صفات ذاتية: وهي التي تكون لازمة للذات أزلا وأبدا لم يزل تعالى ولا يزال موصوفا بها.( 48)
صفات فعلية: ترجع إلى مشيئته تعالى وقدرته كصفة الاستواء والنزول والإتيان والمجيء...

مذهب السلف والخلف

اعلم أن مذهب السلف وهم الذين كانوا من أهل العلم قبل القرن الثالث الهجري، وهم الصحابة والتابعون وتابعوهم، والخلف وهم من كان من العلماء بعد نهاية القرن الثالث الهجري قائم على صرف النصوص المتشابهة عن ظواهرها المستحيلة، واعتقاد أن هذه الظواهر غير مرادة للشارع قطعا، استنادا إلى آيات محكمات.

وإذا كان السلف والخلف يتفقون على صرف النصوص عن ظواهرها المستحلية، فإن السلف يفوضون معاني هذه المتشابهات إلى الله تعالى وحده بعد تنزيهه عن ظواهرها، وهذا ضرب من التأويل الإجمالي للنصوص المتشابهة، فإن الخلف اختاروا التأويل التفصيلي للنصوص المتشابهة، أي حمل اللفظ على معنى يسوغ في اللغة العربية ويليق بالله تعالى. بمعنى أن ما فعله الأشاعرة وهم من الخلف إزاء هذه المشكلة هو الاستمرار على مذهب أهل السنة والجماعة مع :" تأويل المتشابه من الكتاب والسنة وتخريجه على ما عرف في كلام العرب من فنون مجازاتها، وضروب بلاغاتها مما يوافق عليه النقل والشرع ويسلمه العقل والطبع."( 49)

وقد سار الإمام الأشعري في هذا الموضع على منهج السلف الصالح، وهو يقدم لنا هذا المنهج القويم في صورة إجماع، وعلى أساسه يثبت الصفات السمعية بنوعيها الذاتية والفعلية.

ففي الباب الذي خصصه هذ الإمام العظيم للأصول التي أجمع عليها السلف "ونبهوا بالأدلة عليها، وأمروا في وقت النبي صلى الله عليه وسلم بها" ( 50) يذكر أنهم "أجمعوا على أنه عز وجل يسمع ويرى، وأن له تعالى يدين مبسوطتين، وأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، من غير أن يكون جوارح، وأن يديه تعالى غير نعمته... وأجمعوا على أنه عز وجل يجيء يوم القيامة والملك صفا لعرض الأمم وحسابها وعقابها وثوابها... وليس مجيئه حركة ولا زوالا وإنما يكون المجيء حركة وزوالا إذا كان الجائي جسما أو جوهرا، فإذا ثبت أنه عز وجل ليس بجسم ولا جوهر لم يجب أن يكون مجيئه نقلة أو حركة... وأنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس نزوله نقلة لأنه ليس بجسم ولا جوهر..."( 51)

ويقول في الفصل الذي خصصه لإبانة قول أهل الحق والسنة "... إن الله تعالى استوي على العرش على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده، استواء منزها عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال... وأن له سبحانه وجها بلا كيف، كما قال: صلى الله عليه وسلموَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِصلى الله عليه وسلم [الرحمن: 27]. وأن له سبحانه يدين بلا كيف كما قال سبحانه: صلى الله عليه وسلمخَلَقْتُ بِيَدَيَّصلى الله عليه وسلم [ص: 75]. وكما قال: صلى الله عليه وسلمبَلْ يداه مبسوطتانصلى الله عليه وسلم [المائدة: 66]. وأن له سبحان عينين بلا كيف كما قال سبحانه صلى الله عليه وسلمتَجْرِي بَأَعْيُنِنَاصلى الله عليه وسلم [القمر: 14]...( 52)

ويحدد الإمام الأشعري معالم المنهج الذي ينبغي اتباعه في باب الصفات عموما وهو ضرب من الإجماع أيضا فيقرر أن السلف: "أجمعوا على وصف الله تعالى بجميع ما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه من غير اعتراض فيه، ولا تكييف له، وأن الإيمان به واجب، وترك التكييف له لازم."(53 )

وإلى هذا المعنى يذهب الحافظ ابن عبد البر فيقرر أن:" الذي عليه أهل السنة وأئمة الفقه والأثر في هذه المسألة-مسألة نزول الله تعالى- وما أشبهها الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، والتصديق بذلك وترك التحديد والكيفية في شيء منه...".( 54)

وعلى هذا الأساس أيضا ينكر الحافظ ابن عبد البر بشدة أن تؤول الصفات الخبرية تأويلا ماديا ملموسا، كما هو الشأن بالنسبة لمن أول حديث النزول من كونه سبحانه وتعالى ينزل بذاته، وهو على كرسيه. فقد رد ذلك واعتبره ضربا من التكييف الذي لا يصدق إلا على ذات مشاهدة على سبيل الإحاطة، فضلا عن عدم شرعية هذا التأويل. فيقرر أن هذا:

"ليس هذا بشيء عند أهل الفهم من أهل السنة، لأن هذا كيفية وهم يفزعون منها، لأنها لا تصلح إلا فيما يحاط به عيانا، وقد جل الله وتعالى عن ذلك، وما غاب عن العيون فلا يصفه ذوو العقول إلا بخبر، ولا خبر في صفات الله إلا ما وصف نفسه به في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تتعدى ذلك إلى تشبيه أو قياس أو تمثيل أو تنظير فإنه صلى الله عليه وسلم لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ اَلسَّمِيعُ الْبَصِيرُصلى الله عليه وسلم [الشورى: 11]. وأهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة.( 55)

لكن إذا ما انتقلنا إلى شيوخ المذهب المتأخرين نرى كثيرا منهم كأبي حامد الغزالي وأبي المعالي الجويني في أحد قوليه، وعبد القاهر البغدادي وأبي المظفر الأسفرايني وسيف الدين الآمدي وفخر الدين الرازي... يتجهون إلى تأويل الصفات الخبرية ويجتهدون في إرجاع مضامينها إلى الصفات المعنوية، وكان هدف هؤلاء جميعا هو تحقيق التنزيه بشكل مباشر، وفي صورة مطلقة، اعتمادا على أحكام العقل، وما تزخر به اللغة العربية من ضروب الاتساع في الاستعارات، فيحملون مثلا لفظ اليدين على القدرة، والوجه على الوجود، والعينين على البصر...( 56)

ولما كانت أكثر النصوص الدينية الواردة في أبواب التوحيد، التي تحتاج إلى فهم عميق في إطار تمثل روح الشرع دائما هي الأحاديث النبوية الشريفة، فقد اشتغل بعض علماء العقيدة الأشعرية ببيان معاني هذه الأحاديث، واختيار المعنى الأنسب الذي يصح في أوصافه سبحانه وتعالى، كما فعل الإمام ابن فورك في كتابه" مشكل الحديث وبيانه" فقد اشتغل هذا العالم الجليل بتأويل جملة من الأحاديث النبوية الموهمة للتشبيه والتي تقتضي التأويل حتما مثل حديث"إن الله خلق آدم على صورته" والقول بأن الهاء ترجع إلى آدم عليه السلام... مخالفة لمن أثبت لله صورة ثم قال بأنها لا كالصور، وهو تعبير غير شرعي مفض إلى التشبيه. وهو كما قال الإمام ابن فورك:" جهل من قائله، وتوغل في تشبيه الله تعالى بخلقه". ( 57)

وبالنظر إلى سبب ورود الحديث نجد أنه ورد في سياق النهي عن ضرب الوجه، ففي حديث ابن أبي حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته." ( 58) أي أن الله تعالى خلق الشخص المضروب على صورة آدم عليه السلام، وهذا توجيه حسن.

أما حديث" رأيت ربي في أحسن صورة " فهو حسب تأويل ابن فورك دائما، إما راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويكون المعنى:" رأيت ربي وأنا في أحسن صورة، أو أن تكون الصورة بمعنى الصفة، ويرجع ذلك إلى الله، وكلا الوجهين سائغ محتمل...( 59)

ومن الأمور التي العلماء في تأويلها أيضا مسألة الاستواء، في قوله تعالى:"الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى". [طه : 5]
قال الإمام أبو منصور البغدادي وهو من متكلمي الأشاعرة المرموقين: "... فزعمت المعتزلة أنه بمعنى استولى، وهو باطل، لأنه يوجب أنه لم يكن مستوليا عليه قبل استوائه عليه، وزعمت المشبهة أن استواءه على العرش، بمعنى كونه مماسا لعرشه من فوقه، وبدلت الكرامية لفظ المماسة بالملاقات... واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: إن آية الاستواء من المتشابه الذي لا يعلمه إلأ الله. وهذا قول مالك بن أنس وفقهاء المدينة كالأصمعي. وروي أن مالكا سئل عن الاستواء فقال: الاستواء معقول، وكيفيته مجهولة، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب. ومنهم من قال: إن استواءه على العرش فعل أحدثه في العرش سماه استواء...

وهذا قول أبي الحسن الأشعري ... والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية على الملك، كأنه أراد: أن الملك ما استوى لأحد غيره..." ( 60)

هذا، وقد تمسك بعض من قصر نظره من أهل الظاهر، بظاهر قول إمامنا مالك –رضي الله عنه- : "الاستواء معقول، وكيفيته مجهولة..." بإثبات اسواء ماديا، وهو خلاف مراد مالك –رحمه الله- الذي" لم يرد أن الاستواء معلوم الثبوت لله، وحاشاه من ذلك، لأنه يعلم مدلول الاستواء، وإنما أراد أن الاستواء معلوم من اللغة، وهو الجسماني، وكيفتيه، أي حقيقته، لأن حقائق الصفات كلها كيفيات، هي مجهولة الثبوت، لله ..." ( 61)

ومما يحتج به هؤلاء أيضا في إثبات المكان والجهة التي يتنزه الخالق عز وجل عنها: حديث الجارية: وأنها لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم : أين الله ؟ وقالت في السماء، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت لها الإيمان بإثباتها المكان لله، بل لأنها آمنت بما جاء به ظواهر أن الله في السماء، فدخلت في جملة الراسخين في العلم الذين يؤمنون بالمتشابه من غير كشف عن معناه، والقطع بنفي المكان حاصل من دليل العقل النافي للافتقار، ومن أدلة السلوب المؤذنة بالتنزيه مثل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى : 11] وأشباهه، ومن قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ)[الزخرف : 84] إذ الموجود لا يكون في مكانين، فليست "في" هنا للمكان قطعا..."(62 )

قال الإمام الباجي في تأويل قول الجارية "في السماء" لعلها تريد وصفه بالعلو، وبذلك يوصف كل شيء من شأنه العلو، فيقال: مكان فلان في السماء، بمعنى علو حاله ورفعته وشرفه".( 63)

وقد ورد حديث آخر في الموطأ يرويه الإمام مالك بن أنس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود: أن رجلا من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سودالء، فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة، فإن كنت تراها مؤمنة أعتقها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم: قال: أتشهدين أن محمدا رسول الله؟ قالت: نعم. قال: أتوقنين بالبعث بعد الموت ؟ قالت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اعتقها.(64)

فهذا الحديث واضح في بيان كيفية الدخول في الإسلام، وأنه لابد من الإتيان بالشهادتين.

وخلاصة مذهب السادة الأشاعرة في هذا الباب، وهو الضيغة النهائية للمذهب، أن المكلف مخير بين يسلم بتلك بالصفات الخبرية، وتمر كما جاءت، دون أن يعتقد حقيقة مدلولاتها اللغوية، التي يتنزه البارئ تعالى عنها كما هو مذهب السلف الصالح. أو يؤولها تأويلا تفصيليا يصرفها عن ظواهرها المستحيلة، على نحو تقبله اللغة، ويشهد له الشرع، وهذا مذهب الخلف.

وإلى هذا المعنى يشير صاحب جوهرة التوحيد بقوله:

وكل نص أوهم التشبيها == أوله أو فوض ورم تنزيها.(65 )


--------------------------------------------
(48) -الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد للإمام البيهقي، ص: 61. التمهيد للباقلاني، ص: 298.
(49) الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى، للشيخ أبي العباس أحمد بن خالد الناصري، 1/140
(50) -رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري، ص: 205.
(51) رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري، ص: 225.
(52) الإبانة لأبي الحسن الأشعري، ص: 21.
(53) رسالة إلى أهل الثغر للإمام الأشعري، ص: 236.
(54) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبد البر 7/148
(55) التمهيد لما في الموطأ من المعني والأسانيد للحافظ لابن عبد البر7/144.
(56) الإرشاد للجويني، ص: 155.
(57) مشكل الحديث وبيانه، ص: 67 وهذا التأويل الذي رفضه الإمام ابن فورك بشدة هو لابن قتيبة، في كتابه: "مشكل الحديث". وقد اعتبر الإمام عبد الرحمن بن الجوزي توجيه ابن قتيبة لحديث الضورة توجيها قبيحا وهو تخليط وتهافت... أنظر كتابه"دفع شبة التشبيه" ص:31
(58) صحيح مسلم، باب النهي عن ضرب الوجه، 8/31
(59) مشكل الحديث وبيانه، لابن فورك، ص: 69.
(60) كتاب أصول الدين، ص:121
(61) مقدمة ابن خلدون، 3/983
(62)مقدمة ابن خلدون 3/983
(63) المنتقى شرح موطأ مال، للقاضي أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، 8/320
(64) الموطأ، كتاب العتق والولاء 2/777 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
(65) جوهرة التوحيد من نظم إبراهيم بن إبراهيم بن حسشن اللقاني (تـ 1041 هـ) وهي منظمومة في العقيدة على طريقة السادة الأشاعرة، تحتوي على 144 بيتا، شرحها كثير من العلماء.