عن استفتاء أمير المومنين حول المصلحة المرسلة وعلاقتها بقضايا تدبير الشأن العام

أضيف بتاريخ 10/03/2008
عن موقع المجلس العلمي الأعلى


يتضمن هذا الكتاب جواب العلماء، أعضاء الهيئة العلمية المكلفة بالإفتاء على الاستفتاء الشرعي الذي تضمنه خطاب أمير المومنين، بمناسبة افتتاح الدورة الأولى للمجلس العلمي الأعلى(فاس: 08 يوليوز 2005)وهو استفتاء حول المصلحة المرسلة وعلاقتها بقضايا تدبير الشأن العام، ومواءمته مع هدي الشريعة الإسلامية، وما تقره من استحداث المنظومة القانونية وتقويتها في أفق الارتقاء بها إلى المستوى الذي يستجيب لضرورات الدولة واستدعاءات الأمة ومتطلبات المحيط العالمي

بسم الله الرحمن الرحيم

مـولانـا أمـيـر المؤمنيـن وحـامـي حمى الـمـلـة والـديـن


يتقدم العلماء، أعضاء المجلس العلمي الأعلى عامة، وأعضاء الهيأة العلمية المكلفة بالإفتاء المنبثقة عنه خاصة، إلى السدة العالية بالله بآيات الشكر والامتنان، في غمرة إحساسهم العميق بمشاعر السعادة والاعتزاز التي أثارها في نفوسهم تلقيهم لاستفتائكم الشرعي المتعلق بالمصلحة المرسلة في علاقتها بقضايا تدبير الشأن العام، ومواءمته مع هدي الشريعة الإسلامية، وما تقره من استحداث قوانين يتوخى منها تحقيق مصالح عامة تمكن المغرب من تحديث المنظومة القانونية وتقويتها في أفق الارتقاء بها إلى المستوى الذي يستجيب لضرورات الدولة واستدعاءات الأمة ومتطلبات المحيط العالمي.
وهذه مبادرة حضارية عميقة الدلالة، وخطوة تأسيسية واسعة المدى، أعادت إلى الواجهة سلوكا راقيا عرفته أمتنا في فترات مجدها السياسي وتألقها الحضاري، حينما كان الملوك والخلفاء، يوجهون العلماء إلى قضايا ذات آثار عملية وبعد اجتماعي، وينتدبونهم إلى الاشتغال بها، وقد كان في طليعة هذا السلوك أن يدعو أبو بكر الصديق علماء القرآن إلى جمعه من متفرقات السعف واللخاف والجريد، ومن نماذجه أيضا أن يدعو عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن حزم وابن شهاب الزهري إلى كتابة الحديث، ومنها أن يدعو أبو جعفر المنصور إمامنا مالك بن أنس إلى وضع كتاب "الموطأ" الذي أراده كتابا ميسرا يقرب السنة النبوية والمادة الفقهية إلى الناس.
ومن امتدادات هذا السلوك الحضاري وتمثلاته في المغرب أن ملوكه قد كان لهم الحظ الأوفر والقدح المعلى في التواصل مع العلماء وفي توجيه مسار المعرفة ودعمها.
ومبادرات الملوك المغاربة كثيرة ومتكررة، من نماذجها ما وعاه التاريخ من كلمة يعقوب المنصور الموحدي الذي قال للموحدين لما أخذوا عليه تقريبه للعلماء:"يا معشر الموحدين، إنما أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته، وهؤلاء لا قبيل لهم إلا أنا، فمهما نابهم أمر فأنا ملجؤهم وإلي فزعهم وإلي ينتسبون".
وقد ترصّع تاريخ المغرب بملوك علماء، من أمثال أبي سعيد عثمان بن يعقوب المنصور، وأخيه الأمير أبي مالك وأبي الحسن بن أبي سعيد وأخيه الأمير أبي علي، وأبي العباس المريني وغيرهم.
ومن ملوك الدولة العلوية الشريفة ملوك وجّهوا العلم وشاركوا في إنتاجه ونشره، وقد كان سيدي محمد بن عبد الله من الأسماء البارزة في هذا المجال، وقد أصدر منشورا في الإصلاح العلمي والديني حدد فيه توجه الدرس العلمي بما رآه جامعا للكلمة.
وقد كان للمولى سليمان حضور علمي قوي، وكان لوالدكم المنعم الملك الحسن الثاني من المشاركات العلمية ما كانت الدروس الحسنية تزدان به، فقد ألقى فيها من الدروس ما عبر به عن استيعاب للثقافة الإسلامية، وقد ناظر العلماء واقترح عليهم موضوعات بعينها حتى صارت هذه الدروس الحسنية واجهة عالمية.
وبهذا يكون جمع القرآن وكتابة السنة والتصنيف في الفقه من مبادرات الخلفاء.
إن علماء مملكتكم، يا مولانا، قد التقطوا كل الإشارات الملكية، ووعوا كل التصريحات الجلية التي ما فتئت جلالتكم توجهها إلى مؤسسة العلماء، وهي إشارات وتصريحات تعبر عن أكيد رغبتكم في أن تتبوأ مؤسسة العلماء موقعها الذي يتيح لها الإسهام الجاد في صناعة مغرب التوازن المعتز بهويته الإسلامية، الناهض بكل الواجبات التي تفرضها ضرورة انخراطه في العصر.
إن رغبة جلالتكم في التمكين لمؤسسة العلماء عن طريق مأسسة أنشطتها وأعمالها ومنحها من الإمكانات المادية ومن الهياكل التنظيمية ما يسمح لها بأن تكون قوة توجيهية واقتراحية في مستويات عديدة، أعلاها أن تكون عاملة إلى جانبكم على مستوى المجلس العلمي الأعلى الذي يحظى بشرف رئاستكم له وممارستكم من خلاله كثيرا من مهمات الإمامة العظمى وخدمة الدين.
إن هذه الرغبة منكم قد أصبحت لدى المتتبعين ثابتا حاضرا وملحظا مركزيا في أسلوب جلالتكم في تدبير الشأن الديني، استصحابا لأسلوب الخلفاء في علاقتهم مع العلماء، وإيمانا بأن العلماء هم نعم العون لأمير المؤمنين على حراسة الدين، كما أن الأطر والكفاءات العلمية والتقنية الوطنية هم العون له على سياسة الدنيا، مع استحضار كل الجسور الواصلة بين الديني والدنيوي، في التصور الإسلامي لمؤسسة الدولة.
إن خطاب جلالتكم الموجه إلى العلماء في افتتاح الدورة الأولى للمجلس العلمي الأعلى بفاس، يوم الجمعة فاتح جمادى الثانية عام 1426 موافق 08 يوليوز 2005، قد جاء على طريقة الأبيناء والفصحاء بليغا وجيزا في لفظه، مفعما بمعاني جوهرية قيمة متصلة بشخصية الدولة في الإسلام وبتلازم الديني والسياسي فيها، وبمساحات الابتكار والتجديد في ممارسة السياسة الشرعية المحققة لمصالح المجموع، من خلال سن قوانين تكفل ضبط حركة المجتمع وتحقق مصلحة الإنسان المغربي المتشبث بدينه الطامح إلى ولوج الساحة العالمية، متمكنا من كل الشروط والمواصفات التي تؤهله للمشاركة في صنع المستقبل السعيد المشترك للإنسانية.

هـويـة الـدولـة فـي الإســلام

إن ممارسة السلطة قد كانت دوما أبرز عامل مؤثر في حركة التاريخ، إذ إنها وجهت نشاط الإنسان وسيرته مسارات متباينة إيجابا وسلبا، فطالما أدخل الحكم الرشيد المجتمعات في حالات من الاستقرار السياسي ومن السلم الاجتماعي، فتفرغ الإنسان للبناء والإنتاج وتقوية النسيج الاجتماعي، كما أنها قد أدخلت المجتمعات مرات أخرى في حالات من الصدام ومن الاحتراب، ففوت عليها ذلك إمكانية الاستفادة من القدرات المتاحة.
وقد تعاملت الشعوب مع منصب السلطة العليا تعاملات متباينة وفق ما كان يشيع في المجتمعات من مفاهيم عن الحكم، وقد أدى القصور المعرفي وغياب الوعي السياسي إلى إشاعة نظريات خاطئة عن الحكم، فمارس بعض الناس الحكم متذرعين بمقولة التناسل عن الإله، وحكم آخرون حكما تيوقراطيا يستند إلى دعوى التفويض الإلهي، وألغى آخرون سند الدين فحكموا حكما أوتوقراطيا شموليا أو فئويا أو استبداديا أو ذرائعيا يستند إلى مقولة الاستبداد المستنير.
فإذا كان أمر الحكم بهذه المثابة وعلى ذلك القدر من الخطورة والقدرة على صناعة الحدث التاريخي، وإذا كان الإسلام دينا يلتحم بالحياة ويستوعب دقائق قضايا الإنسان واهتماماته ويُكيّفها وفق الرؤية الإسلامية للكون وللإنسان وللعلاقات العادلة التي يتعين أن تكون سائدة بين الحاكمين والمحكومين، فإنه من غير المنطقي ولا المنسجم مع طبيعة هذا الدين وتوجهه الشمولي أن يدع المجال السياسي على أهميته حمى مستباحا ومجالا مهملا تتكرر فيه تجارب غير ناضجة تعيد إنتاج الأزمة بعد كل شغور لمنصب الحكم فتفتح المجتمعات على المجهول.
لذا كان طبيعيا ومنطقيا أن تشغل قضية الحكم حيزها المناسب من التصور الإسلامي ومن البناء التشريعي، وقد بلغ من العناية بقضية الحكم أن درسه العلماء المسلمون ضمن مباحث العقيدة فجاءت الكثير من المؤلفات مذيلة بمباحث الإمامة.
وقد استشكل البعض كيف يدرس موضوع الحكم في حيز الدرس العقدي، إذ كان الأولى أن يدرس ضمن مباحث الفقه العملي، وقد كان العالم المسلم على وعي تام بالطبيعة العملية لمبحث الحكم، وهو ما يستدعي منهجيا إدراجه ضمن مصادر الفقه العملي، إلا أن العلماء المسلمين لم يكونوا حريصين على دراسة جزئيات ممارسة السلطة بقدر ما كانوا حريصين على معالجة الانحراف الفكري المتصل بنظرية السلطة، نتيجة لما قد يلابس الفكر الإسلامي خصوصا في فترات ضعفه من توهم خلو الإسلام من نظرية للحكم، فكان اعتقاد حضور النظرية السياسية في الحكم أولى من عرض التفاريع.
وتبعا لهذا الوعي، وإضافة إلى ما تقرر في كتب العقيدة عن الإمامة، فقد أنجز العلماء المسلمون دراسات علمية ضافية رصينة عن النظرية السياسية الإسلامية، وهي دراسات تتأسس فيها الحقائق بناء على تمحيص علمي للنصوص الشرعية، وعلى دراسة واعية للتجربة الإسلامية، وعلى رغبة في الحفاظ على مؤسسة الدولة وتجنيب الأمة عوامل التآكل السياسي.
وقد أنتج هذا الدرس وذلك التمحيص كتبا متخصصة في الفقه السياسي الإسلامي، وبالإمكان أخذ فكرة أولية عن عمق هذه الدراسات واستيعابها بالرجوع إلى كتاب مثل كتاب "غياث الأمم في التياث الظلم" للإمام الجويني، أو كتاب:"تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك" أو "الأحكام السلطانية" للماوردي، أو غيرها من الكتب حيث يقف المرء على عمق رسوخ الفقه السياسي الإسلامي في بيئتنا الثقافية.
إن قضية الحكم قضية مركزية حاضرة حضورا بارزا في الفقه السياسي الإسلامي، من جزئياتها وحقائقها ما هو ثابت من ثوابت الممارسة السياسية الإسلامية، ومنها ما هو خلاصة اجتهاد حرص على الاستفادة من تجارب الأمة وتفادي تكرار الانكسارات السياسية.
إن قضية الإمامة ليست مجرد ابتكار اضطر إليه المسلمون وهم يواجهون مشكلة الاستخلاف، كما يروج له من لا تسعفه أدواته العلمية بمتابعة النصوص وباستخلاص الأحكام منها.
بل إن قضية الحكم المعبر عنها بالإمامة العظمى تجد سندها ومرجعيتها في أكثر من نص شرعي من كتاب وسنة، ومن واقع تعامل الأمة الإسلامية مع حقائقها، إذ إن إدراك مفاهيم الحكم والالتزام بالبيعة رسمت خريطة المجموعات السياسية، فكان الولاء للدولة محكوما بمتانة التمسك بالبيعة، وكانت الاستهانة بها تؤدي إلى بروز كيانات سياسية جديدة تضعف جسد الأمة.
إن من شواهد شرعية الإمامة من جهة، وتلازم السياسي والديني فيها من جهة أخرى، أن إنشاء الدولة في الإسلام قد تجسد في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم الذي تحمل تكاليف النبوة مع ما تقتضيه من إبلاغ، كما تحمل تكاليف الإمامة العظمى وما تقتضيه من تصرفات، هي ذات التصرفات التي يقوم بها رئيس الدولة في الدولة المدنية الحديثة.
فعلى نحو ما خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم من خطابات تتعلق بإبلاغ الوحي وتعليم العبادة، فقد وُجهت إليه خطابات ذات طبيعة سياسية وسيادية، ومن ذلك أنه خوطب بممارسة الحكم على جهة الوجوب الشرعي، فقال الله تعالى:﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله﴾، (النساء من الآية 105)، وقال:﴿ وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط﴾ (المائدة من الآية 42).
وقد خاطب الله رسوله في قضايا الممارسة الدستورية فدعاه إلى الاستشارة فقال:﴿ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر﴾، (آل عمران من الآية 159)، وموقف الاستشارة هو من مقتضيات مقام الإمامة العظمى ومن مستلزماتها وهو من عوامل تشجيع الناس على الانخراط في المشروع السياسي، وليست من مقتضيات النبوة، لأن النبوة موصولة بالله لا تتوقف على مشورة أحد.
وقد خاطب الله رسوله في قضايا جنائية معروفة حدد لها جزاءات معروفة، وخاطبه بإبرام العقود والوفاء بها، وبعقد المعاهدات والدخول في السلم، وقسم الفيء والغنيمة، وخاطبه في جمع أموال الزكاة وفي توزيعها، وخاطبه في قسم الأموال وتوزيع التركات، وفصل القول في أحوال الإرث التي تمثل نموذجا إسلاميا في توزيع الثروة.
وباعتبار اتصاف الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة العظمى، تصرف تصرفات لا تصح إلا من إمام أعظم، ولو تصرفها من ليست له هذه الصفة وادعاها كل من شاء لاختل النظام، فهو قد حارب وسالم، وأسر وفك الأسر، وقسم الفيء، وخاطب الملوك من موقع رئاسة الدولة، فوجه أكثر من خطاب إلى القوتين السياسيتين الكبيرتين في عهده وهما الروم والفرس، ثم خاطب باقي الكيانات السياسية التابعة لهما، فكاتب ملك الحبشة والغساسنة، وملك البحرين، وعمان، واليمن، ونجران وحضرموت، ومهرة وغيرها، وبعث كتبا لأهل جرباء، وكاتب الحارث بن أبي شمر الغساني وجبلة بن الأيهم، وليست هذه المكاتبات مقتصرة على الدعوة إلى الإسلام، بل إن منها ما تطرق إلى قضايا سياسية كما فعل مع الداريين إذ منحهم جزءا من الأرض.
ولقد تشكل من مجموع تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأغيار فقه دولي قائم الذات، عرف بفقه السير، والمراد به السير المتبعة في التعامل مع المخالف، وقد اهتم به أبو يوسف صاحب أبي حنيفة، واستعرض السرخسي في كتاب السير من كتابه "المبسوط" جملة من أحكام هذا الفقه، وبهذا يكون الفقه الإسلامي قد احتضن مباحث من القانون الدولي.
وقد تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم تصرفات سيادية أخرى فعين العمال في بعض الجهات ونصب القضاة وبعث السفراء، وخطط بنفسه لبناء المؤسسات وفصل في الخصومات وبت في قضايا كثيرة استقصاها الإمام محمد بن فرج مولى ابن الطلاع القرطبي في كتاب خاص: "أقضية الرسول صلى الله عليه وسلم"، ولعل مصدرا من مثل كتاب "تخريج الدلالات السمعية" للخزاعي أن يكون موفيا بإعطاء صورة عن دولة الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة وأنها دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية.
حينما نشأت الدولة الإسلامية نشأت نشوءاً مرتبطا بالدين، إذ كان المؤسس لها نبيا، ولم يكن زعيما يستند في تأسيسه إلى عصبية أو إلى انحياز إلى طبقة معينة يدافع عن مصالحها.
وتأسست الدولة في أجواء إيمانية كانت تهيمن على عقد البيعة الذي كان من بنوده في بيعة العقبة الثانية، السمع والطاعة في المنشط والمكره، والنفقة في العسر واليسر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق.
وعلى هذا، فإن إشكالا معرفيا يعترض كل من حاول تفسير التاريخ السياسي غير متمثل لتلازم الديني والسياسي في طبيعة الدولة الإسلامية، ومن ثم يتعذر عليه تكييف كثير من التصرفات التي قام بها الحكام المسلمون، فلا يجد سندا لأفعال كثيرة، منها أن الإمام الأعظم في التاريخ الإسلامي قد أم بالمسلمين وخطب بعد توليته، ونصوص خطب الأئمة على المنابر بعد ولايتهم تغطي حيزا مهما من فن الخطابة في الأدب الإسلامي، وهي خطب تعرض البرنامج السياسي لكل إمام، ومنها خطبة أبي بكر إثر الولاية، وخطبة عمر، وخطبة عثمان، وعلي بن أبي طالب، بل إن مما أراد الخصوم انتقاده على عثمان رضي الله عنه أنه ارتقى الدرجة العليا من منبر الرسول صلى الله عليه وسلم لما خطب بعد ولايته.
ومنها أن الإمام الأعظم يحضر صلوات الأعياد وأنه يتولى ذبح أضحيتين إحداهما عن نفسه وأهله والثانية عمن لم يضح من أفراد الأمة، ومنها انشغال الأئمة ببناء المساجد ومدارس العلم الشرعي وإحداث المكتبات إلى جوار المساجد، واهتمامهم بتنظيم ركب الحاج وإيفاد من يمثلهم فيه، ووقفهم على الأماكن المقدسة كالحرمين الشريفين وبيت المقدس، وتعيينهم الأئمة والخطباء بقرارات مكتوبة، ومنها رئاستهم لمؤسسة الوقف العام، وتعليق إجراء المعاوضات في الوقف على إذن الإمام كما هو الشأن في الحالة المغربية التي يشترط فيها ظهير 08 يوليوز 1916 صدور موافقة ملكية بهذا الشأن، ومنها اختصاص الإمام الأعظم بإعلان صحة رؤية الهلال لتوحيد الصيام والإفطار، ومنها أن القضاة الشرعيين قد ظلوا نائبين عن الإمام في تحمل جزء من المهمات الدينية فكانوا يزكون الأئمة ويعينونهم ويثبتون رؤية الهلال ثبوتا شرعيا.
إن القول بانفصال الديني عن السياسي في طبيعة الدولة يوقع في إشكال منهجي ويورط في عجز حقيقي عن تحليل الوقائع تحليلا موضوعيا.
اعتبارا لكل الشواهد الواقعية المعبرة عن التلازم الوثيق بين الديني والسياسي في الدولة المسلمة، فإنه من قبيل المماحكة والتمادي في الخطأ أن يدعي أناس أن الرسول لم يعمل إلا على تأسيس دولة دينية لا تختلف عن الدولة التي حكمها داود وسليمان، وهي مباينة للدولة بمفهومها السياسي، والواقع أن هذا القول لا يمثل جهلا بدولة الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، وإنما يمثل جهلا بالواقع التاريخي لدولة داود وسليمان أيضا، ويكفي في الإشارة إلى أن دولة داود وسليمان كانتا دولتين سياسيتين، توجيه الخطاب الإلهي إلى داود بوجوب العدل في الحكم وذلك في قوله تعالى: ﴿يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب﴾ (ص من الآية 26)، وسؤال سليمان ربه أن يوتيه الملك لما قال: ﴿رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي﴾ (ص من الآية 35)، وقول الله تعالى: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان﴾، (البقرة من الآية 102)، ولقد تصرف سليمان تصرف الملوك لما دعا ملكة سبأ إلى الإيمان به ومتابعته واستقدم إليه عرشها الرامز إلى وجودها السياسي.
والواقع أن الخلاف في الفقه الإسلامي في موضوع الإمامة لم ينصب على مشروعية نصب الإمام باستثناء ما أثارته فرقة النجدات من الخوارج وضرار الأصم وهشام الفوطي من المعتزلة، وإنما انصب الخلاف على كون هذا الوجوب وجوبا شرعيا من سنده فعل الصحابة وإجماعهم عليه، أو وجوبا عقليا كما رأت المعتزلة والروافض، أو وجوبا جامعا بين الشرع والعقل.
وإذا كانت حراسة الدين وحمايته وظيفة أساسية من وظائف الدولة في الإسلام، فإن ذلك لا يعني أن تكون الدولة دولة دينية تختص بإدارتها طبقة من رجال الدين، وإنما المراد من إسلاميتها أن تكون مرجعيتها إسلامية تتهدى بهدي الإسلام، وتجعل من أحكامه وقيمه ومعاييره، معاييرها وقيمها ونموذجها في إدارة شؤونها، على أن توكل الأعمال لذوي الكفاءات الذين يتوفرون على شروط علمية وأخلاقية تجعلهم في مستوى الثقة الموضوعة فيهم والانتظارات المعلقة عليهم.
ومهمة العلماء في هذه الدولة هي أن يمثلوا جهة الخبرة القادرة على الدلالة على مراد الشرع، وهم يؤدون عملهم من موقع تأهلهم العلمي وقدرتهم على الكشف عن الحكم الشرعي، لا من موقع تفردهم بخصوصية معنوية تمنحهم سلطة دينية لا تراجع. وأقوالهم معرضة للانتقاد وللنقض إن أعوزها الدليل الشرعي أو انهارت أمام دليل شرعي أقوى، وقد قال الباقلاني:"إن المسلمين لا يحكمهم معصوم ولا عالم بالغيب"، فمن ثم لم تكن الدولة الإسلامية دولة تيوقراطية ولا دولة تفويض إلهي، وإنما كانت دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية لا غير.
ولقد عبر والدكم جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله، عن تصوره لتلازم الديني والسياسي في المؤسسة الملكية بالمغرب أبلغ تعبير وأجلاه فقال:"الفرق بين الدين والدولة غير موجود، فالحكومة علماء، والعلماء حكومة، واليوم الذي تفرق فيه دولة إسلامية بين دينها ودنياها فلنصل عليها صلاة الجنازة مسبقا".

الإمــامــة الــعــظــمــى
إن رئاسة الدولة في الإسلام تتميز عن غيرها من رئاسات الدول الأخرى بأن متوليها يسمى إماما أعظم، وهي تسمية مشعرة بمعنى الرئاسة المستشف من الإمامة كما أنها مشعرة بالمعنى الديني الذي تتضمنه الإمامة أيضا. وبموجب هذه الإمامة كان لرئيس الدولة رئاسة دينية كما أن له رئاسة سياسية.
ولفظ الإمام يمثل خصوصية الدولة الإسلامية بسبب استقائه من المعجم القرآني ومن النطق النبوي، فقد جاء لفظ الإمامة في القرآن وهو يعبر عن إرادة الله تحرير بني إسرائيل وإخراجهم من سلطة فرعون، وتمكينهم من حكم أنفسهم بأنفسهم.
فقال الله تعالى:﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين﴾(القصص:05)، وقد صار بعض أنبياء بني إسرائيل فعلا ملوكا وأئمة لقومهم، فحكمهم داود وسليمان، وعرف بنو إسرائيل عصر الملوك الأنبياء ضمن ما عرفوا من أنواع الحكم عبر تاريخهم.
وقال الحق سبحانه: ﴿يوم ندعو كل أناس بإمامهم﴾ (الإسراء: من الآية 71)، وقد جاءت تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم رئيس الدولة إماما في أحاديث كثيرة منها قوله عن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (إمام عادل)، وقال: "من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه ..."، وورد في الحديث: "يلزم جماعة المسلمين وإمامهم"، وقوله: "فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ...".
وقد تداول الفقه الإسلامي تسمية الإمام في كل ما كان متوقفا على إذن الإمام أو مشاركته في الأحكام العملية.

عــقــد الـبـيـعـة

يتأسس منصب الإمامة العظمى عمليا على إبرام عقد واقعي بين الأمة وإمامها، تتقابل بموجبه الحقوق والواجبات فتلتزم الأمة بالسمع والطاعة والتعاون مع إمامها على تحقيق وظائف الدولة، بينما يلتزم الإمام بحراسة الدين وسياسة الدنيا والقيام بما دعاه الفقه السياسي الإسلامي قواعد بناء الملك، ويتمثل في عمارة المدن وحراسة الرعية وتدبير الجند ومقابلة الدخل بالخرج ورعاية أصول السياسة العادلة. وتتوسع وظائف الدولة أو تضيق حسب الوضع الاقتصادي وقدرة مؤسسات المجتمع على تلبية الحاجات الاجتماعية التي تنشط في حال قوة المجتمع وانتشار الوعي التضامني فيه.
وعقد البيعة الذي تتأسس عليه شرعية الحكم هو عقد واقعي محدد المعالم مارسه المسلمون في كل حالات انتقال السلطة، وهو ليس عقدا افتراضيا لجأ إليه المسلمون.
إن إبرام عقد البيعة هو مظهر مشاركة الأمة في ممارسة السيادة التي ظل الخلاف حولها بارزا في الفكر السياسي، ويستشهد على إلزامية هذه المشاركة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما عزم على خوض معركة بدر، توقف حتى استشار الناس فأعلن الأنصار والمهاجرون عن مواقفهم، ولم يكن ذلك منه عليه السلام إلا لأن عقد البيعة كان لا يتضمن النصرة خارج المدينة المنورة، فكانت الاستشارة من أجل تعديل مقتضى البيعة.
وبيعة الإمام مقيدة باحترام النصوص الشرعية وما تتضمنه من أحكام قطعية، وهو بهذا مظهر سيادة الشريعة وتمثيلها للمرجعية العليا في عقد البيعة، ولهذا فبإعمال أصل الشورى تصير السيادة مشتركة بين الأمة وإمامها، وبموجب احترام أحكام الشريعة تتحقق مرجعية الشريعة وسيادتها، وبتضافر هذه الممارسات السيادية تكون الدولة المسلمة قد استجمعت شروط الاستقرار والانضباط على النحو الذي ينسجم مع خصوصيتها بين الدول الأخرى.

اسـتـمـراريـة الـدولـة

لقد كان شغور منصب رئاسة الدولة مرحلة حرجة في تاريخ الشعوب، وكثيرا ما أدى إلى نشوء صراع حاد على السلطة قد ينتهي بإراقة الدماء وبتوزع رقعة البلاد بأيدي المتغلبين عليها، وهو ما يضعف الدولة. وتحسبا لهذا المآل، فقد كان من دأب الأئمة أن يرشحوا لمنصب الرئاسة من يرونه أهلا لجمع الكلمة ولمنع إراقة الدماء ولضمان بقاء وحدة الأمة، ولقد عهد أبو بكر إلى عمر من بعده، ولما راجعه طلحة في اختيار عمر قال: "لئن سألني الله عن تفويض أمور المسلمين إلى عمر لأقولن استخلفت على أهلك خير أهلك"، وعهد عمر إلى ستة من الصحابة رأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو راض عنهم، وأوكل إليهم اختيار الإمام من بينهم.
ولقد اعتبر ولاية العهد ترشيحا لمنصب الرئاسة يقوم بها الإمام ساعيا إلى درء شغور منصب الإمامة العظمى، على أن سريان ولاية العهد يظل متوقفا على مبايعة أهل الحل والعقد مبايعة انعقاد تثبت بها مقتضى ولاية العهد، وتليها مبايعة العموم مبايعة أخرى على الطاعة.

وبهذا الإجراء، يكون نصب الإمام قد مرعبر مراحل ولاية العهد ثم تأكيدها ببيعة انعقاد ثم تعميمها ببيعة الطاعة. وبعد تثبيت مبدأ ولاية العهد، أفاض الفقه السياسي في الإسلام في تفاريع تلك الولاية.

الـصـيـغـة الـتـاريـخـيـة لـمـمـارسـة الـدولـة الـمـغـربـيـة لـوظـيـفـتـهـا الـديـنـيـة

لما كانت رعاية الشأن الديني وظيفة مركزية وعملا أساسيا من أعمال الدولة توجبه طبيعة الدولة ذات المرجعية الإسلامية ويفرضه ميثاق البيعة الذي يقع التعاقد فيه على حماية الدين، فقد كان ضروريا أن تختار المجموعات السياسية في الأمة لنفسها صيغة السلوك التديني الذي تتبناه من بين جميع الاختيارات التي جعل الله للناس فيها سعة وإمكانا للاختيار، وتتشكل تلك الاختيارات في مدارس فقهية اجتهد علماؤها في خدمتها ومراكمة البحث في قضايا الفقه وتأصيل ذلك البحث عبر أزمنة متطاولة حتى صارت مذاهب قائمة توافر لها من توالي الجهود العلمية ما جعلها أدنى إلى الصواب من الآراء الفردية التي لا تسلم من الخطأ، كما لا يسلم الرأي الفردي الذي يقابل الرأي الجماعي.
وفي الحالة المغربية، فقد قبل المغاربة الإسلام لما أدركوا حقيقته واستتبع ذلك تاريخيا أن تيارات فكرية ومذاهب فقهية عديدة تسربت إلى الساحة المغربية وتمددت فيها وتواجهت مواجهة أضرت بالوحدة الفكرية وبالاستقرار السياسي، لكن المغرب لجأ إلى التخلص من ذلك الارتباك بأن اختار الفقه المالكي مذهبا فقهيا والمذهب الأشعري توجها عقديا.
ولقد عرف المغرب الفقه المالكي ابتداء من اتصال أمثال يحيى بن يحيى بالإمام مالك، لكنه عرف المذهب المالكي في تكامله بعد أن عاد به علماء منهم أبو هارون عمران بن عبد الله العمري، وأحمد بن حذافة العمري، وبشار بن بركانة، ودراس بن إسماعيل.
وأما المذهب الأشعري فقد تعرف عليه أهل المغرب عن طريق رجال اتصلوا بالمشرق، منهم دراس بن إسماعيل احتمالا، وأبو الحسن القابسي تحقيقا، ثم أبو بكر الباقلاني.
وبغض النظر عما قيل من اعتبارات اختيار المغاربة للمذهبين المالكي والأشعري، فإن الأكيد أن المغرب عرف صراعات مذهبية، إذ انتشر فيه المذهب الصفري والإباضي الخارجيان ومذهب التشيع والإرجاء والاعتزال، وقد كان عبد الحميد الأوربي الذي استقبل المولى إدريس معتزليا، كما انتشر في المغرب فقه الحنفية وفقه الإمام الأوزاعي وفقه الشيعة، ومثل هذه الأوضاع تدعو إلى البحث عن مذهب يحقق الاستقرار وينأى عن الاختلاف والتمزق.
وميزة المذهب الأشعري والمالكي على اختلاف موضوعيهما واهتماماتهما أنهما يرتبطان بخيط ناظم ويشتركان في ميزة أساسية هي وسطيتهما واعتدالهما وجمعهما بين كل ما كان الأخذ به سبب انفصال المذاهب الأخرى، وافتراقها.
فقد برز المذهب الأشعري على يد مؤسسه أبي الحسن الأشعري في القرن الرابع والناس منقسمون بين حشوية مشبهة مجسمة، على مذهب مضر بن محمد بن خالد وأبي محمد الضبي الأسدي وأحمد بن عطاء الجهيمي، وبين مؤولة معطلة للصفات الإلهية؛ وكانوا على طرفي نقيض في قضايا عقدية متعددة، منها قدم كلام الله، فقال البعض إنه قديم حتى في أصواته ورسومه، وقالت المعتزلة بأنه مخلوق، لكن الأشعري توسط إذ ميز بين الكلام النفسي الذي رآه قديما دون غيره، واختلفوا في حرية العبد، فقالت الجبرية بانتفاء قدرة العبد، وجعلت نسبة الفعل إليه مجازية، وقالت المعتزلة بنقيض ذلك فأثبتت للعبد قدرة، لكن الأشعرية قالت بنظرية الكسب الجامعة بين موقفي إثبات القدرة ونفيها، وقالت المشبهة برؤية الله بالإبصار في الآخرة ونفت المعتزلة الرؤية، لكن الأشاعرة قالت بالرؤية من غير تحديد ولا تجسيم.
أما المذهب المالكي فإنه قد اكتسب المرونة من كثرة أصوله الاستنباطية التي أربى بها على كل مذهب إذ بلغت ستة عشر أو سبعة عشر أصلا، وهذه الوفرة في الأصول هي التي جعلت بعض العلماء يعتبرها ميزة المذهب التي أقدرته على ممارسة الاجتهاد وتحقيق اليسر.
وإلى جانب المرونة فقد اكتسب الفقه المالكي السماحة من أصول اختص بها جعلته يتقارب مع المذاهب الأخرى فيأخذ بلازم أدلتها في التوسعة على الناس ومن ذلك قوله بأصل مراعاة الخلاف الذي استعمله المذهب المالكي في حالات يقع الناس فيها في ما يخالف المذهب، لكن الفقه المالكي يتدارك الموقف درءا للحرج فيعود إلى لازم قول مذهب آخر فيعمله.
لقد وعى الفقيه المغربي خصوصية السعة والمرونة التي يتميز بها المذهب المالكي وتمثلها تمثلا جيدا، ونسج على منوالها فقها مالكيا يراعي الخصوصية المحلية، فنشأت عن ذلك مدرسة مالكية مغربية تضاهي المدرسة المصرية أو البغدادية.
وقد أضاف الفقه المالكي في الغرب الإسلامي اعتبار ما جرى به العمل بشروطه في نطاق الترجيح بين الأقوال المتعددة داخل المذهب، وقد كان هذا أصلا يعدل به عن القول المشهور إلى القول الضعيف إذا سانده جريان العمل به.
ولعل أبا الوليد الباجي أن يكون أول من اعتبر من المالكية ما جرى به العمل في كتابه مناهج الأحكام، وقد تضخم الفقه المؤسس على جريان العمل فأصبح يعرف بفقه العمليات في مقابل الفقه الأصلي، وأصبحت له مؤلفاته المستقلة وعم الكثير من الأبواب الفقهية، وقد ألف فيه علماء منهم الشيخ الزقاق التجيبي، وأحمد بن القاضي والعربي الفاسي، وعبد الرحمن الفاسي، وأبو القاسم السجلماسي، وألف علماء المغرب فيما جرى به العمل في مناطق معينة كسوس وغمارة وفاس، وتحدث عبد الرحمن الفاسي عن ثلاث مائة مسألة جرى بها العمل بفاس.
لقد كانت الدولة في الغرب الإسلامي مدركة لضرورة توحيد الناس على مذهب فقهي واحد لينتظم إجراء الأحكام الفقهية والقضائية ويتحقق الاستقرار الاجتماعي، فاختارت المذهب المالكي، وقام هذا الاختيار على مراعاة ملحظ دقيق هو عدم انخراط فقهاء المالكية في أي اتجاه عقدي غير اتجاه أهل السنة والجماعة، إذ لم يكن من المالكية معتزلة ولا خوارج ولا شيعة.
لقد اختار هشام بن عبد الرحمن بالأندلس هذا الاختيار فقال في رسالته التي نقلها القاضي عياض: "قد نظرنا طويلا في أخبار الفقهاء، وقرأنا ما صنف من أخبارهم إلى يومنا هذا فلم نر مذهبا غيره أسلم منه، فإن فيها الجهمية والرافضة والخوارج والمرجئة والشيعة، إلا مذهب مالك رحمه الله، فإنا ما سمعنا أحدا ممن تقلد مذهبه قال بشيء من هذه البدع فالاستمساك به نجاة".
ويرجع هذا ولا شك إلى النهج العقدي الذي أصله مالك رحمه الله، فأخذ الناس عنه العقيدة في جملة ما أخذوا، وقد سجل القرافي في كتاب الجامع من"الذخيرة" ما كان عليه مالك من حرص على صفاء العقيدة وسلامتها، وقد درس الناس ضمن مصادر الفقه المالكي المتداولة عقيدة أهل السنة، كما هو الحال في عقيدة ابن أبي زيد القيرواني.
وحرصا على الائتلاف على المذهب المالكي، فقد كان الأئمة يشترطون على من يولونه خطة القضاء أو الفتوى أن يفتي ويقضي في نطاق المذهب المالكي، ذكر المقري أن الفقيه منذر بن سعيد البلوطي كان يؤثر المذهب الظاهري ويجمع كتبه ويأخذ به نفسه وذويه، لكنه إذا جلس للقضاء فإنه يقضي بمذهب مالك وأصحابه بالذي استقر عليه العمل في بلدهم، وقد عزل الحافظ محمد بن قاسم القوري ومحمد بن محمد السراج لما قضيا بخلاف ما جرى به العمل في المغرب.
وهذا الموقف الذي اتخذه الأئمة حسم الخلاف في قضية إلزام القضاء، فقد كانت قضية إلزام القاضي أو المفتي بمذهب معين موضع اختلاف ذكره الماوردي في "الأحكام السلطانية"، وذهب إلى عدم إلزامية ذلك، إلا أن أهل المغرب اتجهوا إلى الإلزام، وسندهم أن عدم الإلزام يتعين في حق كبار المجتهدين، وإلا فإن سحنون قد ولى رجلا القضاء فشرط عليه ألا يقضي إلا بقول أهل المدينة.


ممارسة التشريع في الدولة الإسلامية

إن الشريعة الإسلامية لها من الأصول الاجتهادية المتجددة ما تستطيع معه أن تستنبط به أحكاما لكل ما يحدث في حياة الناس، وقد يتم ذلك الاستنباط عن طريق إعمال القياس أو رعاية المصلحة أو سد الذرائع أو مراعاة الخلاف أو الخروج من الخلاف أو غيرها من الأصول التي حققت للفقه الإسلامي مرونة وقدرة هائلة على استيعاب الوقائع.
ولقد كان الفقهاء المسلمون يميزون جيدا بين الأحكام المتوصل إليها مباشرة من خلال مساءلة النص وبين ما يتوصلون إليه عن طريق اجتهاد قابل للمناقشة.
وقد ذهب الفقه الحنفي خصوصا إلى تخصيص الحكم المستقى من دليل ظني بتسمية خاصة، فسمى ما ثبت به الإلزام بدليل ظني واجبا، في مقابل الفرض الذي ثبت الإلزام به بدليل قطعي، وسمى ما ثبت النهي عنه بدليل ظني مكروها كراهة تحريم في مقابل الحرام الذي ثبت النهي عنه بدليل قطعي.
واعتبارا لهذا الملحظ كان الكثير من العلماء يعبرون عما توصلوا إليه بالاجتهاد بتعبيرات خاصة، فكانوا يقولون عما يرونه غير جائز: إني أكرهه أو لا أحبه، أو ما شابه ذلك من العبارات.
ومن خلال متابعة نشاط الاجتهاد في تشقيق أحكام جديدة تؤطر المستجدات تأطيرا شرعيا يمكن الانتهاء إلى أن للتشريع دلالتين متباينتين موضوعا وحكما.

أولــهــمــا:
تشريع مؤسس منشيء لأحكام ابتداء، يحسن أفعالا ويرتب عليها الحلية أو المثوبة، ويقبح أفعالا أخرى فيترتب عليها الذم أو العقوبة، وهذا التشريع هو من اختصاص الخالق سبحانه، وهو المعبر عنه بالخطاب الشرعي الذي هو في حقيقته خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا، وهذا التشريع أعم من أن يقارن بالقانون، فهو يتناول أحكام العبادات، وعقد النيات، وأفعال القلوب التي منها الإيمان والصبر والتوكل والرضا بالقضاء والقدر، ومنها الكفر والحسد والنفاق وغيرها من الأفعال القلبية الخفية المؤثرة، وإن كان الناس لا يستطيعون كشفها إلا إذا تحولت إلى أفعال جسدية. ويبقى الجزاء على هذه الأفعال من اختصاص الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

وثـانـيـهـمـا:
ترسيم أحكام تقتضيها شريعة قائمة ويتوقف عليها تحقيق مصالح الناس.
وهذا النوع من الترسيم هو الذي اندفع إليه الخلفاء بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وانضمام شعوب كثيرة إلى دائرة الأمة الإسلامية، وأمثلة هذا النوع كثيرة لم يتوقف إنتاجها عبر تاريخ الأمة، وهي المستلزم الطبيعي لمشروعية الاجتهاد وبقائه ببقاء من لا يخلي الله العصر منهم للقيام له بالحجة.
فمنذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم واتساع رقعة البلاد الإسلامية وجد الصحابة أنفسهم أمام ضرورة إحداث تنظيمات واستنباط أحكام جديدة تضبط بها حركة المجتمع.
ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد امتنع عن تسعير السلع ما دام السعر محكوما بنشاط السوق، وبجدلية العرض والطلب فقال عليه السلام:"فإن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق"، ومؤداه أن الله خالق أسباب التضخم والانكماش التي تتحكم في الأسعار طبيعيا على نحو يبدو جليا في تقلبات سوق المواد الاستراتيجية كالبترول في عصرنا. لكن فقه الصحابة اعتبر حالة الاحتكار غير الطبيعية داعية إلى التسعير درءا لمفسدة مصطنعة. وبهذا الجواز قال مالك وأبو حنيفة وأحمد.
ومن هذا القبيل أن تحدث للناس أوضاع تجارية جديدة فيعمل فيها الفقه قواعد درء المفسدة وجلب المصلحة فينتج حكما مناسبا، ومن ذلك أن التاجر إذا اكترى مكانا يبيع فيه سلعة واشترط منع غيره من أن يبيعها فإن هذا يعتبر تحجيرا واستئثارا بحق الغير وهو لذلك لا يجوز، وإذا وقع استُدرك بتسعير سلعة المكتري حتى لا يستغل تفرده ببيعها لفرض أثمان ظالمة، وهذا الذي رآه الفقه هو من مستجدات الحياة وهو يشابه إلى حد بعيد مبدأ حماية القوة التنافسية للأسعار حاليا.
وفي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الإبل الضالة فمنع التقاطها لقدرتها على الوصول إلى غذائها ولعموم الأمن وعدم امتداد الأيدي إليها، لكن عثمان لاحظ تغير أحوال الناس بفعل اتساع رقعة البلاد فرآى أن تباع ويحفظ ثمنها لحساب صاحبها إذا طلبها.
ومن أنواع الاستحداث للأحكام أن عمر نقل دية الخطأ من العاقلة التي كانت تتضامن مع القاتل خطأ من أفراد القبيلة إذ جعلها في الديوان الذي أصبح يحل محل العاقلة في أداء الدية، فأصبحت الدولة تقوم مقام صندوق الضمان حاليا.

مـجـالات تـقـنـيـن الأحـكـام الـمـدنـيـة

إن تقنين أحكام جديدة تضبط مستجدات الحياة وإحداث لوائح تنظيمية للمؤسسات العمومية والخاصة لهو من أهم دواعي وجود سلطة دنيوية.
وميزة الدولة الحديثة هي ضرورة توفرها على مدونة من النصوص الحديثة القادرة على التحكم في مسارات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، إذ بها تستطيع المؤسسات أداء مهامها في دائرة احترام النصوص المنظمة ضمانا للحقوق ودرءاً للتصرف بداعي التشهي أو الانحياز إلى جهة على حساب جهة أخرى.
إن من نافلة القول حاليا الحديث عن ضرورة استحداث قوانين تنظم مجالات مثل البناء، حفاظا على جمالية التجمعات السكانية وسلامة السكان وبقاء الهوية العمرانية، ومثل استحداث قوانين السير وتحديد السرعة القصوى، وسن قوانين منع تلويث المجال، وقوانين حفظ الصحة، وسلامة الأطعمة، ومراقبة مدى صلاحيتها للاستهلاك، وخلوها من الأمراض الوبائية والمتنقلة، وذلك بمنع تهريبها ومنع ذبحها ذبحا سريا لا يراعي الشروط الصحية، إلخ...

إن تدخل الإمام في التشريع يمتد إلى ثلاثة مجالات:
1. مجال ما لا نص فيه من الشرع؛
2. مجال ما كان موضع خلاف فقهي تباينت فيه الآراء؛
3. مجال ما كان فيه تحقيق مصلحة حقيقية.

المجال الأول:
وهو ما يعرف بمنطقة العفو التي أسسها الحديث النبوي الذي جاء فيه )ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية....(
وما كان في حيز العفو غير مشمول بدلالة نص شرعي فهو صالح لأن يغطى بقوانين ملائمة يراعى فيها صلاحيتها للانسجام مع النسيج التشريعي الإسلامي فلا تكون مناقضة لتوجهه ومقاصده.
وقد ظل الأئمة يستحدثون ضمن هذا النوع من التصرفات غير المنصوص عليها أحكاما مناسبة اتكاء على نصوص تشريعية معروفة فأوجدوا نظما ضبطت بها قطاعات عديدة من الحياة، منها نظام اقتصادي عالج قضايا البيوع والشركات والإجارات والتولية والإقالة والصرف والحوالة والوقف وما إليها من القضايا الاقتصادية، ومنها نظام زراعي تمثل في أحكام إحياء الموات والمغارسة وأحكام الماء وإكراء الأرض بجزء من الخارج منها، ومنها نظام متكامل للمحافظة على البيئة تشكل من نظرية حريم الماء والأشجار وإحداث الأدخنة، ومنها نظام متكامل للعمارة يتشكل من أحكام البنيان ورفع الضرر عن الجيران، وتوسعة الطرق وإحداث مرتفقات العقارات، إلخ...
وقد تابع الفقه المعاصر هذا المسار فأقر الحجر الصحي وأثبت نقل رؤية الهلال بالهاتف وصولا بعد ذلك إلى الحكم في عمليات زرع الأعضاء وتحديد معنى الموت الطبيعي والطبي، وإمكان اعتماد البصمات الوراثية والاستنساخ، إلخ...

المجال الثاني:
لقد شاء الله أن يكون الفقه الإسلامي مفتوحا على الكثير من الآراء والرؤى المختلفة التي أفرزها النظر الاجتهادي، وقد كان ذلك التعدد مظهر حيوية وخصوبة وثراء للفقه الإسلامي، ولذلك قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه (ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم، وما أحب أن أصحاب رسول اله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق وأنهم أئمة يقتدى بهم فلو أخذ بقول رجل منهم كان في سعة(.
وقد انبنى على سمة التعدد في الفقه الإسلامي نظريات عديدة أصلته ووجهته، منها نظرية التصويب الاجتهادي في غير المعقولات، ونظرية القول بالأشبه وتكافؤ الأدلة، وغيرها من النظريات المذهبية التي رامت ضبط التعدد وتوظيفه لصيانة وحدة الأمة الفكرية رغم التباين في الاجتهاد.
ولقد استمر تعدد الآراء حاضرا في الفقه الإسلامي على مستوى المذاهب الفقهية وعلى مستوى المذهب الواحد، فخالف أبو يوسف ومحمد بن الحسن إمامهما أبا حنيفة في ثلث مذهبه لما اتصلا بالفقه المالكي.
وداخل المذهب المالكي خالف ابن القاسم مالكا في قضايا كثيرة جمعها أبو القاسم الجبيري في كتاب مستقل، وخالف اللخمي أقوال مالك مرات عديدة، وخالف فقهاء المغرب مذهب مالك في أكثر من ثلاثمائة مسألة جرى العمل بها بفاس، وخالف فقهاء الأندلس مالكا في ثماني عشرة مسألة.
المجال الثالث:
وهو مجال ما يحقق المصلحة التي عليها مدار أحكام الشريعة، وقد جاءت نصوص الشريعة مصرحة بكون التشريع الإسلامي رحمة للناس يريد الله أن يرفع به الحرج والعنت عمن أخذ به.
لكن اعتبار المصلحة لا يكون ذا جدوى وعاصما من الانسلاخ عن الدين إلا إذا ضبط مفهوم المصلحة وحدد مجالها وما يعتبر منها وما لا يعتبر، وإلا فإن دعوى تحقيق المصلحة كان أيضا ذريعة لارتكاب مخالفات وفظائع ضد الإنسانية مهد للإقدام عليها بأنها تحقق مصالح معينة.
فلقد اندلعت حروب شرسة ضارية تحت دعوى تحقيق حماية المجال الأمني لمجموعات سياسية معينة، وكلف ذلك شعوبا كثيرة ثمنا باهضا من الدم والآلام، ومن وحي تحقيق المصلحة برزت نزعات قامت على أسس فكرية مؤداها أن النزوع إلى الشر متأصل في الإنسان ومن حقه أن يجاري طبيعته، وأن مجال السياسة منفصل عن مجال الدين، وأن لكل منهما منطقه ومعاييره وقيمه، وأن بقاء الدولة هو في حد ذاته غاية وهدف يمكن أن يتوسل إليه بكل وسيلة وإن غير شريفة.
وباسم المصلحة ينشط تيار النفعية، وباسم المصلحة يدخل العالم حاليا مرحلة ما بعد الإنسانية. وعلى العموم فلا أحد يقدم على سلوك مهما تكن طبيعته الأخلاقية إلا وهو مندفع إليه برغبة في تحقيق مصلحة حقيقية كانت أو متوهمة، فردية كانت أو جماعية، وهذا هو الذي أوجد وضع صراع المصالح الذي طبع تاريخ الإنسانية. ولذا فإن من حكمة الشرع أنه ضبط المصلحة وحددها بحدودها وميز صحيحها من سقيمها قبل أن يأذن باستعمالها.
وقد قسم الأصوليون المصالح إلى ثلاثة أنواع هي:
1. مصالح شهد لها الشرع بالاعتبار، وبوجود أصل يشهد لها؛
2. مصالح ألغاها ولم يعتبرها؛
3. مصالح أرسلها الشرع فلم يشهد لها لا باعتبار ولا ببطلان، وتأتي أكثر المصالح المتجددة بحكم التطور الاجتماعي ضمن حقل المصالح المرسلة غير المشهود لها باعتبار أو ببطلان، ويكون العمل الاجتهادي مطالبا بتمحيص هذه المصالح ودراسة عوائدها ومآلاتها الفردية والجماعية.
من منطلق ضبط مفهوم المصلحة اشترط لها الشاطبي شروطا هي:
- أن تكون معقولة في ذاتها، بحيث إذا عرضت على العقول قبلتها؛
- أن تكون ملائمة لمقاصد الشرع في الجملة، بحيث لا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من أدلته القطعية،
- أن ترجع إلى حفظ أمر ضروري أو إلى رفع حرج لازم في الدين.
إذا كان تحقيق المصلحة أمرا تتشوف إليه الشريعة فإن منصب الإمامة العظمى بما له من إلزامية القرار ومن قدرة على توحيد النظر الاجتهادي يظل هو المؤهل لتقنين ما يحقق المصالح الحقيقية ويدرأ المفاسد التي قد تتبدى في صورة مصلحة.
لقد تأسست في الفقه السياسي الإسلامي قاعدة كلية إجماعية تنص على أن تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة، وهي قاعدة مركزية تعرفها كل المذاهب الفقهية، وهي تعني تعليق كل التقنينات على تحقيق المصلحة. وفي جميع تلك التقنينات يراعى فيها أن لا تصادم حكما قطعيا في الشريعة ولا تعارض المصلحة المتوصل إليها بالرأي مصلحة أكيدة بالشرع.
إن تقنين ما فيه مصلحة يراعي الضروريات والحاجيات العامة قد أصبح لازما من لوازم تدبير الشأن العام، وأخذا به يمكن أن تعالج قضايا التربية والتعليم والإعلام والثقافة، والقضاء والاقتصاد والعمران والبيئة وتداول السلطة وتجديد الفقه المعاصر، وكل ذلك من منطلق طلب المصلحة.
إن من أثر الإحساس بضرورة التقنين أن أصبحت المؤسسات الوطنية والدولية وشعوب المعمور تعيش وتيرة متسارعة في إصدار التقنينات التي تبتغي بها منع الجرائم المنظمة ومنع تبييض الأموال وتجارة الجنس والمخدرات، إلخ...
وإذا كانت الأمة الإسلامية مطالبة بإصدار قوانين حديثة تحقق المصالح في إطار احترام ثوابت الشريعة، فإنه يجب التنبيه إلى أن تحقيق المصلحة لا يتم بهذه السهولة واليسر، إذ إن الفقيه يجد نفسه أحيانا أمام تجاذب المصالح وتفاوتها فيسعى إلى أن يختار البعض ويهدر البعض، فقد يتعارض مثلا اختيار منع استنزاف فرشة المياه الجوفية مع حاجة الناس إلى الماء، فيراعى الضرر الحاضر في منع الناس من الماء في حده الأدنى، ويؤجل اعتبار ضرر استنزاف الفرشة المائية.
وفي مثل هذه الحالة يجب تحريك فقه الموازنة واعتبار الأولويات فيقدم الأصلح على الصالح، والعام على الخاص، والمصلحة المحققة على الظنية، والآنية على المستقبلة. وللفقه الإسلامي ترتيب موضوعي للاستحقاقات حسب أهميتها فيتقدم منها ما كان ضروريا ويتلوه ما كان حاجيا ثم ما كان تحسينيا.
وحسب تراتب المصالح ضمن سلم الاستحقاقات، لا يجوز تقديم ما كان حاجيا تتحقق به التوسعة على الناس على ما كان ضروريا لحياتهم فتقدم مصالح التشغيل والتغذية والعلاج والإسكان والعلم والمعرفة والعبادة على غيرها من الاستحقاقات التي لا تبلغ مبلغ الضرورة، وتقديم هذه الأسبقيات مؤسس على أنها تمس الكليات الخمس التي بها قوام إنسانية الإنسان.
وخلال البحث عن سبل تحقيق المصلحة يجب استحضار كل الإكراهات والمعوقات التي جعلها الشرع سببا في الاستثناء التشريعي المتمثل في حالات الضرورة والحاجة والإكراه، وهي أوضاع تعرض للناس فتستدعي حكما مناسبا يقوم على التخفيف ورفع الحرج.
وقد عني الفقه الإسلامي بإثبات هذه الحالات التي تحيل على الاستثناء، وقد جمعها العلماء في قواعد كلية جامعة منها:
- إن الضرورات تبيح المحظورات؛
- كل ما نهي عنه لذاته يباح للضرورة، وكل ما نهي عنه لغيره يباح للحاجة؛
- الحرام يباح للحاجة؛
- الكراهة تزول بالحاجة؛
- الحاجة سبب الإباحة الأصلية؛
- الحاجة سبب الرخصة؛
- الحوائج الأصلية للإنسان لا تعد مالا فاضلا؛
- الحاجة توجب الانتقال إلى البدل عند تعذر الأصل؛
- تفويت المنفعة عن وقت الحاجة إليها إبطال لها؛
- الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة؛
- لا ينظر للمفسدة المقتضية للحظر إلا في الحاجة الموجبة للإذن؛
- ما أبيح للحاجة يقدر بقدرها؛
- الاحتياج لا يبطل حق الغير.

إن مثل هذه القواعد حينما تتقصى وتُحلل يمكن أن تصير إطارا للنظر الشرعي في تحقيق المصلحة التي تلابسها دواع ذاتية وأخرى موضوعية اقتصادية أو اجتماعية تقتضي مراعاتها.
إن نجاح عملية سن قوانين كفيلة بملء الفراغ القانوني في المجال الذي تنظمه رهين بقدرة تلك القوانين على تحقيق العدل وإبراز استفادة المجتمع من تلك القوانين، وذلك كله مرتهن بموقف الإنسان من القوانين وتجاوبه معها واقتناعه بجدواها، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كانت القوانين معبرة عن قيم المجتمع وتصوراته الدينية ومفاهيمه الأخلاقية والسلوكية، حينذاك فقط تتجه إرادة الإنسان إلى احترام تلك القوانين فيطبقها على نحو ما يقع حاليا حينما يحرص الإنسان المسلم على إخراج زكاة ماله طوعا، وإن كانت القوانين لا تطالبه بها، وعلى نحو ما كان يقع في فترات كثيرة من تقديم الإنسان نفسه إلى الحاكم طالبا إلى أن يطهر من ذنب أتاه.
وبهذه الميزة المتمثلة في قدرة الدين على مد رباط شعوري حميمي بين الإنسان والقانون، كان الدين أقوى مؤيدات القانون وأهم ضمان لاحترامه وللصدق في تطبيقه.
إن المجتمع المغربي وهو مدعو إلى سن قوانين تراعي كل القيم العالمية الخيرة التي تتماهى مع الشريعة الإسلامية، مدعو كذلك في هذا إلى صياغة قاعدة من المفاهيم الشرعية ليرسي عليها ذلك البناء القانوني.
إن المغرب مدعو إلى الاضطلاع بمشروع فكري وتشريعي يتمثل في قراءة نصوص الشريعة واستعادة الأحكام التي راكمها النظر الفقهي بكل مدارسه، وذلك من أجل إعادة توظيفها بسحبها على مستجدات الحياة لتكون سندا تشريعيا لكثير من التقنينات التي يمكن أن تعتبر تجليا راهنا لمضامين تلك النصوص وتلك الأحكام المقررة.
فحينما تسن الدولة مثلا قوانين للمحافظة على الغطاء النباتي وتلزم الناس بالحصول على إذن من الجهة الحكومية الوصية لاقتلاع الأشجار، فإن ذلك التقنين يجد سنده القوي في قول الله تعالى: ﴿ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين﴾ (الحشر:5). والآية تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقدم على قطع النخيل في ظروف خاصة إلا بعد أن أذن الله له بذلك.
وحينما نريد تحفيز الناس واستحثاثهم على المشاركة السياسية بالإدلاء بأصواتهم في الاستحقاقات الانتخابية، فإن من المفيد تذكيرهم بقول الله تعالى: ﴿ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه ءاثم قلبه﴾. (البقرة من الآية283). كما يتعين إفهام الناس أن المشاركة في الاستحقاقات ليست إلا وجها حديثا للشهادة لبعض الناس بأنه أهل لتولي تدبير شؤون المواطن والنطق باسمه، وحين نروم إحداث تقنينات تحد من حوادث السير القاتلة فإنه يتعين تذكير الناس بقول الله تعالى:﴿ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا﴾ (الإسراء من الآية 34). ولاشك أن الحصول على رخصة السياقة قد أعقب عهدا أعطاه طالبها بالتقيد بقانون السير، وبالإمكان تذكير الناس بانضواء المجازفة بالسياقة تحت مفهوم القتل الخطأ إن لم يكن عمدا مع ما رتبه الشارع على قتل النفس من جزاءات دنيوية وأخروية.
وعلى الإجمال فإن في الرصيد المعرفي الإسلامي من المفاهيم ما يمكن أن يكون قاعدة فكرية للتشريعات التي تكتسب قوة إلزامية إضافية باستنادها إلى الدين.
وبمزيد بحث في هذا الفقه ومع امتلاك القدر الكافي من الجرأة يمكن أن يتبوأ المغرب موقع الريادة والسبق ضمن جهود عالمية تتجه إلى تقنين ما يكفل حقوق الإنسان عموما وحقوق المرأة والطفل، وحقوق ذوي الاحتياجات.
وبإمكان هذا الفقه مثلا، أن يستدرك على بعض التقنينات التي تجحف بحق المرأة التي يتوفى عنها زوجها حينما تضعها في خيار صعب بين تمكينها من معاش زوجها المتوفى، وبين حقها في أن تتزوج فتكون في خيار بين الزواج الذي هو حقها الطبيعي، وبين الاستفادة من مكسب المعاش الذي تأسس أصلا على مساهمة زوجها المتوفى.
وبالإمكان كذلك حماية حق الطفل اليتيم، حينما نأخذ بما يقرره الفقه الإسلامي من أن الحاجر لا يستثمر مال المحجور لنفسه وإنما يستثمره لفائدة المحجور، وبه يتعين أن تتحول صناديق إيداع أموال القاصرين إلى شركات مساهمة تستثمر الأموال لتوزع أرباحها على القاصرين حسب حصص المشاركة.

مـولانـا أمـيـر الـمـؤمـنـيـن

منذ أن بزغت شمس الإسلام على هذه الربوع المغربية، هدى الله أهلها ووفق علماءها إلى الأخذ بما يضمن لها الإجماع في العقيدة والمذهب. كما هداهم إلى اختيار منهجهم في السياسة بريادة أمير المؤمنين، ففوضوا إلى متقلدها والمبايع عليها النظر في ما يصلح أحوالهم الدينية والدنيوية، وما يحمي اختياراتهم من اللغو والغلو والتطرف.
مـولانـا أمـيـر الـمـؤمـنـيـن

إن ميراث الخير الذي بناه المغاربة بقيادة ملوكهم وإرشاد علمائهم قد شكل على امتداد الأجيال والقرون بكل ما يحمله من كنوز علمية وحضارية، ومن قيم معنوية وإنجازات مادية قد أناخ ركبه بساحتكم واستظل بوارف ظلكم وألقى مقاليد أمره بين أيديكم، فأنتم اليوم ضامن بقائه ورمز قوته وعنوان وجوده، وسر عظمته، وأمل حاضره ومستقبله، وربان سفينته هو أمانة السلف الصالح الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه قد آل إلى الخلف البار، الذي أدرك قيمة ما أصبح مؤتمنا عليه فهو يسير فيه سيرة آبائه الصالحين المصلحين، ويقود سفينته إلى بر الأمان، وشاطئ الأمن والسلام، مضيفا إلى قديم السلف جديدا وإلى تليدهم طريفا، فبسم الله مجرى سفينة الإصلاح بقيادتكم الحكيمة وعلى الله قصد السبيل في الاجتهاد والتخريج والتنزيل على ضوء الشرع الحكيم الذي ما أتى إلا لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، ورفع الحرج عن الناس مع الحفاظ على القطعيات وحماية اليقينيات ومن ورائكم وعن أيمانكم وشمائلكم علماء الأمة وفضلاؤها وأهل الصلاح والفضل والتقوى وكل شعبكم الوفي المؤمن الذي يبادلكم حبا بحب ووفاء بوفاء، يترسم خطاكم ويسارع إلى امتثال أمركم في العسر واليسر والمنشط والمكره، ويتطلع إلى اجتهاداتكم، النابعة من روح الشريعة الغراء، يطمئن إليها قلبه، ويرضى عنه بامتثالها ربه.

والسلام على المقام العالي بالله.

عن الهيأة العلمية المكلفة بالإفتاء في المجلس العلمي الأعلى

الكاتب العام للمجلس محمد يسف


الـعـلـمـاء أعـضـاء الهيأة العلمية المكلفة بالإفـتـاء
 عمر بنعباد؛
 محمد بنمعجوز المزغراني؛
 مصطفى بن حمزة؛
 مصطفى النجار؛
 الحسن العبادي؛
 عبد الغفور الناصر؛
 إبراهيم نوروي؛
 محمد عز الدين المعيار الإدريسي؛
 فاطمة القباج؛
 رضوان بنشقرون؛
 مولاي الزاهد عزيز علوي؛
 عبد المجيد السملالي؛
 الحسين وكاك؛
 أحمد بلفقيه الزريهني؛
 الحسن بن الصديق.