يشكل التصوف في المغرب وحركته جزءا لا يتجزأ من تاريخ المملكة بل هو مكون أساس وجوهر من مكونات هوية الشخصية المغربية عبر مسارها التاريخي كما أوضح ذلك الدرس التاريخي والفكري والحضاري في المغرب.
مُؤدى هذه الحقيقة قوةُ الحضور الصوفي في الزمان والمكان المغربيين وإشاعته كمّاً ونوعاً، منذ إرهاصاته الأولى إبان الفتح الإسلامي مع عقبة بنِ نافع الفهري ثم موسـى بنِ نصير، فالمولى إدريس بنِ عبد الله، إلى اليوم في زمن أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، حيث كان التصوف وما زال أساسا حَيَاتِيًّا في المجتمع المغربي وفي سلوك أفراده، مُشَكِّلاً بذلك ثابتا من ثوابت الأمة، ومتوافقا وغيرَه من الثوابت مع أصلها جميعا: كتابِ الله وسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أساس السلوك الصوفي عند المغاربة، صوفيةَ أخلاقٍ ورقائقَ كانوا أمْ صوفيةَ حقائقَ، وقد وجدوا ضالتـهم في السنة العملية وما أينعته من أخلاق وأذواق، كما التزموا نصوص الحديث النبوي واستندوا إليه استشهادا وتمثلا وفعلا.
جاء في الحديث القدسي: “إن أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يُذْكَرُونَ بِذِكْرِي، وأُذْكَرُ بذِكرهم”.
يجتمع في ما سقناه ارتباطا بالأصل النبوي السنـي للتصوف في المغرب القول النبوي مع أقوال بعض أقطاب التصوف في وطننا، وهو اجتماعٌ مؤشرٌ على حقيقة السند الصوفي السُّنـي في المغرب، وتزداد هذه الحقيقة عمقا حين نستحضر ذلك الحديث النبوي الذي يسمو بمقام أهل الغرب من أمة الإسلام الذين هم أهل المغرب وفق ما يراه بعض المعلقين؛ فمن طريق سعد بن أبي وقاص روى مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة».
ويقول عبد الرحمن بن الجوزي: «رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سِيَرِ السلف الصالحين».
ويقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: «إن الصوفية هم السابقون لطريق الله تعالى، خاصة أن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم مقتبسةٌ من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به».
يتضح، إذن، أن الالتزام بالأصول الشرعية؛ الكتابِ والسنةِ، هو أساس الطرق الصوفية، وهو المعتمد في المغرب فيصلا بين الصواب والخطأ، ولذلك خاطب أبو الحسن الشاذلي مختلف مريديه قائلا: «إذا عارض كشفك الكتاب والسنة، فتمسك بالكتاب والسنة، ودع الكشف، وقُلْ لنفسك إن الله قد ضمن لي العصمةَ في الكتاب والسنة، ولم يضمنها لي في جانب الكشف ولا الإلهام ولا المشاهدة إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة».
أما دور الصوفية المغاربةِ طُرُقاً وأَعْلَاماً في نشر الإسلام، فمساءلة تاريخ إفريقيا جنوب الصحراء تفي بالمطـلوب، وتُفْضِي إلى استخلاص ما فعله التجانيون والكُنتيون خاصة؛ والفاضليون والـمَعَيْنِيُّونَ في الجهة الغربية جنوب الصحراء حتى قامت دولة عمر الفوتي بهويتها الإسلامية الصوفية التجانية، ثم ما أنجزته المدرسة الأحمدية الإدريسية وما تفرع عنها من طرق في بلاد السودان الشرقي خدمة للإسلام والمسلمين.
لكن الاتجاه الذي ساد، وبقي ممثلا لطريقة الجنيد هو: تصوف الإرشاد والعمل والسلوك ويسمى أيضا: التصوف العملي. وإن أشهر الطرق التي تنتسب إليه على الإطلاق، والتي تعد مدارس مستقلة قائمة بذاتها لها أعلامها ومعالمها، وتمثل في نفس الأمر طريق الإمام الجنيد هي:
المدرسة القادرية
المدرسة الشاذلية
المدرسة التجانية
وتنفرد مدرسة الطريقة القادرية بكونها أول مدرسة صوفية ظهرت في الإسلام بينما تتميز المدرسة الشاذلية بانتشارها الواسع وبكونها الطريقة التي تفرعت عنها عدة طرق في المغرب والمشرق، مثل الجزولية والزروقية والوفائية والناصرية وغيرها.
أما المدرسة التجانية فهي مدرسة ذات صيت عالمي، ولها امتداد قوي في إفريقيا وأتباع هذه الطريقة يسمون بالتجانيين.
المدارس الصوفية بإفريقيا معالم وأعلام
إن الاختيار الجنيدي للمغاربة قد امتد إفريقيا إِنْ عَلَى مستوى المدارسة أو الممارسة، وهو ما تزكيه كتب التاريخ والتراجم والفهارس.
ومما هو معلوم أن حلقات التواصل الصوفي انتظمت بين المغرب وإفريقيا في وقت مبكر، وتنص المصادر على أن بلاد شنقيط (موريتانيا) شكلت جسرا لعبور المدارس الصوفية المغربية من المغرب إلى إفريقيا مرورا بالسنغال: القادرية، البكائية، الفاضلية، الشاذلية، التجانية، وهي أحدث الطرق السائدة في بلاد شنقيط نشأةً وأوسعُها انتشارا في إفريقيا الغربية.
لقد عمل شيوخ الصلاح المغاربة على ترسيخ قيم التسامح والتعايش ورفع التحديات والأخطار التي تهدد القارة السمراء. كما ساهموا في تقوية الروابط الروحية والأخلاقية في أفق إشاعة قيم الإسلام المعتدل. وحَرِصَ المغربُ عَبْرَ التاريخ على مواصلة رعاية المنتسبين إلى الطرق الصوفية بهذه البقاع والعناية بهم وذلك من خلال العمل على الحفاظ والارتقاء بالرابطة الروحية التي تجمع سكان البلدان الإفريقية بمؤسسة إمارة المؤمنين وحامي الملة والدين. هذا الإرث التربوي الروحي الذي ساهم في نشر وترسيخ قيم السلم والتسامح والوسطية والاعتدال لِيَحْصُلَ اليقين والاطمئنان والسكينة والاستقرار.
فالنموذج الديني المغربي في ظل الثوابت الثلاثة عقيدة وفقها وتصوفا محروسةً بإمارة المؤمنين التي تضمن الحماية والحصانة لهذا النموذج الديني المعتدل والذي بوّأ المغرب مكانة جعلته يستقبل ثلة من الطـلبة المنحدرين من الدول الإفريقية إلى جانب طـلبات واردة من دول أوروبية قصد تكوينـهم داخل معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات لِتَلَقِّـي المبادئ الدينية وفق منهج معتدل وسطي يحقق السلامة والسلم والأمن والأمان.