يُعدّ كتاب "المواقف" للصوفي العراقي محمد بن عبد الجبار النفّري (توفي نحو 354هـ/965م) واحدًا من أكثر النصوص الصوفية عمقًا وغموضًا في التراث الإسلامي. هذا الكتاب الفريد، مع مؤلفه الآخر "المخاطبات"، شكّلا معًا ما يمكن تسميته بخريطة النفّري الروحية، حيث تتحول التجربة الباطنية إلى لغة تتأرجح بين النور والحدّ، بين الغياب والحضور.
ولد النفّري في قرية "نِفَر" قرب بابل بالعراق، وعُرف بصفته من كبار المتصوفة في القرن الرابع الهجري. ما يميّز كتابه "المواقف" هو أسلوبه الموجز والمكثّف، الذي لا يعتمد على السرد أو البرهان العقلي، بل على ومضات روحية تتجاوز حدود اللغة. كل نص فيه يبدأ بالعبارة الشهيرة "أوقفني في كذا..."، كإشارة إلى لحظة كشف إلهي يقف فيها العارف على مشارف الحضور الإلهي، في دهشة تامة أمام المطلق.
تتناول مواقف النفّري موضوعات كبرى مثل الفناء والبقاء، والمعرفة الإلهية، والتوحيد، وحدود العقل أمام الكشف. فاللغة عنده ليست وسيلة لنقل المعنى فحسب، بل ميدان اختبار لمعنى الوجود ذاته. إنه يحاول من داخل اللغة أن يلمس ما يتجاوزها، في تجربة وُصفت بأنها "تجربة الحدّ"، أي الوقوف عند أقصى تخوم الإدراك.
يقول النفّري في إحدى إشاراته إن الوقوف هو أول الطريق وآخره: فالعارف، حين يقف بين يدي الله، لا يسأل، ولا يجيب، بل يفنى ليدرك. هذا الوقوف ليس جمادًا، بل حركة بين المراتب، من شهود إلى غيبة، ومن علم إلى ذهول، ومن حرف إلى معنى لا يُقال.
أثر النفّري بلغ بعيدًا، حتى عند ابن عربي الذي رأى فيه أحد أوائل الممهّدين لفكرة الكشف والفيض، كما وجدت نصوصه صدى في الدراسات الحديثة التي قارنتها بالتصوف المسيحي والبوذي. كثير من الباحثين يرون أن "المواقف" ليس كتاباً للقراءة، بل تجربة للعيش، وأنه يدعو القارئ إلى أن يقف هو أيضاً، أمام ذاته وربه ولغته.
إن "المواقف" ليس مجرد نص صوفي قديم، بل هو صرخة وجودية تتجاوز الزمان، تذكّرنا بأن المعرفة الحقة لا تُنال بالعقل وحده، بل بالوقوف، بالإنصات، وبالدخول في صمتٍ يجعل الكلمة مجرّد ظلّ للنور.


