مباحث العقيدة الأشعرية: حكم أهل المعاصي وزيادة الإيمان ونقصانه والاستثناء فيه

أضيف بتاريخ 01/13/2023
الأشعرية


ذهب أئمة العقيدة الأشعرية إلى أن اسم الإيمان لا يزول بالعصيان، ومذهب أكثر أئمة السلف أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي. وقد أجاز الأشاعرة تعليق الإيمان بمشيئه الله تعالى، كقول الرجل :أنا مؤمن إن شاء الله، بناء على ما يتوفى عليه الإنسان. 

إذا كان كثير من أهل العلم يقولون: إن الإيمان قول وعمل، قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة، أو تفسير الإيمان بأنه عبارة عن تصديق القلب بأمور مخصوصة ومعلومة ورد الشرع بها، فإن أهل الذنوب عند هؤلاء وأولئك جميعا مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم... وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" يريد مستكمل الإيمان.

حكم أهل المعاصي:

ولقد ذهب أئمة العقيدة الأشعرية إلى أن اسم الإيمان لا يزول بالعصيان، والدليل على ذلك أن معظم آيات الأحكام مصدرة بذكر المؤمنين، كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( [البقرة : 183]. وكقوله أيضا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ ( [التحريم: 8]. فالنص الأول يفيد أن من يخاطب بتفاصيل التكاليف مندرج تحت اسم المؤمنين، أما النص الثاني فإن الله تعالى خاطب به العصاة بالإيمان وأمرهم بالتوبة، بمقتضى أن العبادات لا تصح إلا من المؤمنين، وأن الفاسق يصح صومه وصلاته وحجه.(1)

ولما كان الأشاعرة عموما يقولون بجواز الغفران كما شهدت بذلك شواهد من القرآن الكريم ومن السنة النبوية الصحيحة فإنهم ينتهون إلى القول بالشفاعة، أو تشفيع الشفعاء وحط أوزار المجرمين بشفاعتهم، وبذلك يظلون أوفياء لما قرروه بخصوص مصير العصاة من هذه الأمة ورفع اسم الكفر عنهم ". (2)

زيادة الإيمان ونقصانه:

مذهب أكثر أئمة السلف أن الإيمان معرفة بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، وهؤلاء أدرجوا جميع الطاعات في مسمى الإيمان، وعلى هذا الأساس فإن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي. يقول الإمام ابن أبي زيد القيرواني في مقدمة رسالته "... وأن الإيمان قول باللسان، وإخلاص بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالأعمال، وينقص بنقص الأعمال، فيكون فيها النقصان، وبها الزيادة، ولا يكمل قول الإيمان إلا بالعمل".(3)

ويقول الإمام أبو منصور عبد القاهر البغدادي: " كل من قال: إن الطاعات كلها من الإيمان أثبت فيه الزيادة والنقصان، وكل من زعم أن الإيمان هو الإقرار الفرد منع من الزيادة والنقصان فيه، وأما من قال: إنه التصديق بالقلب فقد منعوا من النقصان فيه واختلفوا في زيادته..." (4) وأما من فسر الإيمان بالتصديق كما هو مذهب جمهور الأشاعرة والماتريدية فإنه لا يزيد ولا ينقص. بمقتضى " أنه لا يفضل تصديق تصديقا، كما لا يفضل علم علما..."(5)

ويقول الإمام الجويني:" ... فمن أطلق اسم الإيمان على الطاعات كلها، يقول على مساق أصله: يزيد الإيمان بزيادة الطاعات، وينقص بنقصها. ومن قال: الإيمان هو التصديق، فمن علم وعرف حقا، فلا يتفاوت التصديق بالأعمال زادت أو نقصت...(6)

ومن أقوى الاعتراضات التي يتمسك بها بناة الخطاب الأشعري المتأخر في رفض القول بالزيادة والنقصان في الإيمان عند من يفسر الإيمان بفعل الطاعات هو " أنه لو كان الإيمان هو فعل الطاعات للزم أن من زادت طاعته على طاعات النبيين عددا أن يكون إيمانه أكثر من إيمان الأنبياء، وهو ممتنع."(7)

وقد وجدنا من الأشاعرة من حاول الجمع بين المذهبين، بل اعتبر الخلاف القائم بين القائلين بزيادة الإيمان ونقصانه مجرد خلاف لفظي ليس إلا، وعلى هذا الأساس يمكن حمل زيادة الإيمان ونقصانه على ما به كماله، وهو الأعمال، والقول بأنه يزيد ولا ينقص محمول على التصديق الباطني، وهو أصل الإيمان، فيكون الخلاف لفظيا بهذا الاعتبار.(8)
وإذا كان الإمام الباقلاني يميل إلى القول بزيادة الإيمان ونقصانه كما ورد في الكتاب والسنة، فإنه يرجع هذه الزيادة والنقصان إلى أحد أمرين:

الأمر الأول: أن يكون ذلك راجعا إلى القول والعمل دون التصديق، وهذا أمر ممكن التحقق، أي قد يخضع القول والعمل لمبدأ الزيادة النقصان مع بقاء أصل الإيمان، بخلاف التصديق فإنه متى انخرم منه أدنى شيء بطل الإيمان.
الأمر الثاني: أن يكون ذلك راجعا إلى الجزاء والثواب والمدح والثناء. ويقوم هذا الأصل على أساس القول بالزيادة والنقصان من حيث الحكم لا من حيث الصورة. أي اعتبار الثواب ضربا من الزيادة، والعقاب ضربا من النقصان. ويمثل الإمام الباقلاني لهذه الحالة بشخص صلى صلاة واحدة، ولتكن صلاة الظهر، في بلاد غير مكة والمدينة، مع الإتيان بجميع الشروط، وشخص آخر أدى الصلاة نفسها بمكة أو المدينة، على النحو الذي أداها بها الشخص الأول. فلا يسوغ أن يقال: إن أحد الصلاتين أزيد من الأخرى من حيث الصورة، ولكن يسوغ أن يقال: إن أحدهما أزيد من الأخرى من حيث الحكم في تحصيل الفضل والثواب.

ويخلص الباقلاني بهذا التوجيه الجيد إلى القول بالزيادة والنقصان في الإيمان بهذا الاعتبار. كما يرجع الزيادة في الإيمان إلى الزيادة بكثرة دلائل التصديق لا في التصديق.(9)
وفي جميع الحالات فإن الذين رجحوا زيادة الإيمان ونقصانه، قالوا: إن النقصان لا يمكن أن يصل إلى حد انتفاء اسم الإيمان وحكمه، وهذا القول الغرض منه صيانة الإنسان المسلم عن عقيدة التكفير التي لا مكان لها في مذهب أهل السنة والجماعة، ومنهم السادة الأشاعرة.

الاستثناء في الإيمان:

الاستثناء في الإيمان معناه تعليق الإيمان بمشيئه الله تعالى، كقول الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله. وقد أجاز الأشاعرة هذا الأمر، بناء على ما يتوفى عليه الإنسان، وهذا ليس تشكيكا منهم في أصل الإيمان، بل كل ما في الأمر أنهم ربطوا الإيمان بما يموت عليه الإنسان. وهو من الأمور التي تندرج في مسمى الغيب الذي لا يعلمه إلا لله تعالى.
وإذا كان أئمة الفكر الأشعري يجيزون الاستثناء في الإيمان، فإنما يجيزنه في المستقبل فقط، ويمنعونه في الماضي والحال، لأن هذا القول ضرب من التشكيك في الإيمان الذي من مقتضياته اليقين.

وعلى هذا الأساس:

• يجوز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن حقا، وهو يقصد بهذا القول أنه مؤمن في الحال.
• يجوز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وهو يقصد بهذا القول أنه مؤمن في المستقبل.
• لا يجوز للإنسان أن يقول: أن مؤمن إن شاء الله، وهو يقصد بهذا القول أنه مؤمن في الحال أو الماضي.
والقاعدة المتبعة في هذا الباب:" أن مشيئة الله تعالى سابقة لكل موجود، فلولا المشيئة لما وجد الموجود، فكما لا يجوز أن يستثني في الحال، فلا يجوز أن يقطع في المستقبل".(10)
وهذا الموقف يظهر تواضع أئمة الفكر الأشعري أمام علم الله تعالى المطلق، ومشيئته النافذة، وأن كل ما يجري في الكون مستند إلى علمه وإرادته سبحانه.


--------------------------------------------
1 - العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية، للإمام الجويني، ص: 259
2 - كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد للإمام الجويني، ص: 392.
3 - شرح عقيدة ابن أبي زيد القيرواني في كتاب الرسالة، للقاضي عبد الوهاب،ص: 342 تحقيق د. أحمد نور سيف طبعة دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، الإمارات العربية المتحدة، الطبعة الأولى 2004.
4 - أصول الدين، للإمام أبي منصور البغدادي ، ص: 252، طبعة دار صادر، بيروت بدون تاريخ.
5 - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، للإمام الجويني، ص،399، تحقيق د. محمد يوسف موسى، مكتبة الخانجي، مصر، 1950
6 - العقيدة النظامية في الأركان السلامية، للإمام الجويني، ص، 266 تحقيق. محمد الزبيدي، طبعة دار بيروت، الطبعة الأولى 2003.
7 - أبكار الأفكار، في أصول الدين، للإمام سيف الدين الآمدي5/21 تحقيق د. أحمد محمد المهدي، مطبعة دار الكتب والوثائق لقومية القاهرة، 2002.
8 - شرح جوهرة التوحيد للإمام الباجوري، ص: 83
9 - الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، للباقلاني، ص: 56.
10 - نفسه ، ص: 60.