فقه نصوص العقيدة : المناظرة الثانية

أضيف بتاريخ 02/17/2023
الأشعرية


هذه مناظرة جرت بين الإمام الأشعري والجبائي في مسألة الرؤية، أي إمكان رؤية الله تعالى في الآخرة. وقد كانت هذه المناظرة سببا في ظهور الإمام الأشعري وظهور مذهب أهل السنة في زمانه

ذكر بعض العلماء أن الشيخ أبا الحسن الأشعري ناظر الجبائي في مسألة الرؤية، فقال الإمام الأشعري للجبائي: ما دليلك على امتناع الرؤية؟

فقال الجبائي قوله تعالى:" لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ" [الأنعام : 103].
قال الإمام الأشعري: الاحتمال باطل في هذه الآية من خمسة أوجه، وإذا وقع الاحتمال سقط الاستدلال، فلا دليل لك....
· الاحتمال الأول: أن يكون تعالى أراد عدم الإدراك بالمكان والجهة، كما قال أصحاب موسى:" فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء : 61] [الشعراء : 61]، ولذلك قيل: الرب تعالى يعلم ولا يُحاط به، ويُرى ولا يُدرك.

· الاحتمال الثاني: أن يكون تعالى أراد أبصار الكافرين.

· الاحتمال الثالث: أن يكون تعالى أراد " لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ" إذ هي صفات، وإنما يُدركه المبصرون بالأبصار.

· الاحتمال الرابع: أن يكون تعالى تمدح بالاقتدار على ذلك، فإن عدم الرؤية لا مدح فيه، إذ العدم لا يرى ولا يُستحق بذلك مدحا، فكأنه تعالى يقول: هو القادر على خلق الموانع في الأبصار، والقادر على شيء قادر على ضده، فهو تعالى قادر على خلق رؤية في الأبصار، كما هو خالق الموانع.

· الاحتمال الخامس: أن يكون معنى الآية: "لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ" في الدنيا، ولكن في الآخرة لقوله تعالى:" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22/23].

فسقط استدلال الجبائي من يده، وظهر انقطاعه، واقض الجمع.[1]

التعليق:
جاءت هذه المناظرة لتقرر أمرا عقديا مجمعا عليه عند أهل السنة والجماعة قاطبة، ألا وهو إمكان رؤية الله تعالى في الآخرة.

وقد اعتمد الإمام الأشعري على قاعدة أصولية جليلة لإبطال دعوى خصمه، وهي قولهم: " ما احتمل واحتمل سقط به الاستدلال" فإن الآية التي استند إليه الجبائي لإبطال رؤية الله تعالى ، تحتمل عدة أوجه، وليس وجها واحدا.

وقد كان موضوع الرؤية من الموضوعات الشائكة في زمان الإمام الأشعري لذلك رأيناه يخصص له بابا كاملا من كتابه " الإبانة عن أصول الديانة" لمناقشة منكري الرؤية بأدلة عقلية ونقلية في غاية الدقة. ومن خلال هذه لمناقشة العلمية يقرر رضي الله عنه مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب.([2])

كما خصص الباب الرابع من كتابه" اللمع في الرد على الزيغ والبدع" للكلام على الرؤية، ويقول في هذا الباب: فإن قالوا: فما معنى قوله تعالى:" لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ" [الأنعام : 103].

قيل لهم: في الدنيا دون الآخرة، لأن القرآن لا يتناقض، فلما قال: في آية أخرى أنه تنظر إليه الأبصار علمنا أن الوقت الذي قال إنه" لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ" فيه غير الوقت الذي أخبرنا فيه أنها تنظر إليه فيه".([3])

وقد كانت هذه المناظرة سببا في ظهور الإمام الأشعري وظهور مذهب أهل السنة في زمانه، كما أن الجبائي لم يعش إلا أياما يسيرة بعد هذه المناظرة كما يقول الإمام السكوني في نهاية عرضه لهذه المناظرة.([4])

قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى " لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ" [الأنعام : 103]. بين سبحانه أنه منزه عن سمات الحدوث، ومنها الإدراك بمعنى الإحاطة والتحديد،كما تدرك سائر المخلوقات، والرؤية ثابتة. فقال الزجاج: أي لا يبلغ كنه حقيقته، كما تقول: أدركت كذا وكذا، لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث في الرؤية يوم القيامة. قال ابن عباس:" لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ" في الدنيا، ويراه المؤمنون في الآخرة، لإخبار الله بها في قوله:" وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22/23] ...(
[5])
--------------------------------
[1]- عيون المناظرات لأبي علي عمر بن خليل السكوني، الصفحة: 229 تحقيق سعد غراب، منشورات الجامعة التونسية 1976.
[2]- كتاب الإبانة عن أصول الديانة للإمام الأشعري، الباب الأول الصفحة: 35 - 62 تحقيق د. فوقية حسين، دار الكتاب العربي القاهرة، الطبعة الثانية 1987.
[3]- كتاب المع في الرد على أهل الزيغ والبدع، لإمام الأشعري، الصفحة: 113 تحقيق، الشيخ عبد العزيز السيروان، طبعة دار لبنان للطباعة والنشر الطبعة الأولى 1987.
[4]- عيون المناظرات للسكوني، الصفحة: 230
[5] الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي، 7/56 راجعه د. محمد ابراهيم الحفناوي دار الحديث القاهرة