مكناس – شكّل *الملتقى الدولي الأول للتصوف* الذي احتضنته مدينة مكناس يوم الخميس 24 يوليوز 2025، فضاءً علميا وروحيا لتسليط الضوء على العلاقة التاريخية والمؤسساتية بين القضاء والتصوف في المغرب، في سياق مرجعية إمارة المؤمنين التي تؤطر وحدة الأمة المغربية.
وخلال هذا اللقاء، أكد محمد رضوان، رئيس الودادية الحسنية للقضاة ورئيس المجموعة الإفريقية للاتحاد الدولي للقضاة، أن التجربة المغربية في التصوف لم تكن مجرد تعبير فردي عن التدين، بل مشروع جماعي ساهم في بناء منظومة قيمية متجذرة في عمق إمارة المؤمنين، وتداخلت مع سلطة القضاء كواحد من الأعمدة المؤسسة للدولة ومرتكز لفهم المعاني قبل الأحكام.
في كلمته، اعتبر رضوان أن التكامل بين القضاء والتصوف نابع من كونهما يجسدان معًا بعدين متكاملين: التشريع والروح. فبينما يؤسس القضاء للواجب عبر القانون، يعمل التصوف على تهذيب هذا الواجب وغرس قيم الرحمة والمحبّة والزكاة، تحت مظلة مرجعية موحدة تمثلها إمارة المؤمنين، ضامنة التوازن بين الوحدة الدينية والتعدد في الاجتهاد.
من جانبه، أبرز عبد الواحد الأنصاري، رئيس مجلس جهة فاس-مكناس، أهمية التصوف السني كرافد محوري لحفظ السلم الاجتماعي في المغرب منذ قرون، وذلك عبر ترسيخ مبادئ العدل والإنصاف والتواضع ونكران الذات، وهي قيم تقاطعها الممارسة القضائية بشكل واضح. واعتبر الأنصاري أن نموذجي القضاء والتصوف المغربيين نجحا في المزج بين الأصالة الدينية والتحديث المؤسساتي، في انسجام تام مع المرجعيات المالكية الأشعرية.
أما عبد الرحمان الشرقاوي، أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس، فاستعرض الدور الجوهري لإمارة المؤمنين كضامن لفهم متوازن للنصوص القانونية ومحقق للعدالة باحتكام مزدوج إلى النص وإلى الروح، وهو ما يتطلب بحسبه إطارا قيميًا ومؤسساتيًا يعترف بالبعدين معًا.
سلط الباحث مراد لكريمات الضوء على مساهمات شخصيات قضائية بارزة من مدينة مكناس، جسدت في مسارها الجمع بين الصرامة القانونية والتزكية الروحية، مستعرضًا نماذج لقضاة مارسوا التصوف كمصدر لسلوكهم وكمرجعية قراراتهم، مما جعلهم فاعلين في تعزيز موقع إمارة المؤمنين كمرجعية دينية وروحية وقانونية.
ومن جهته، توقف عبد الوهاب الفيلالي، أستاذ كلية الشريعة بفاس، عند مميزات التصوف المغربي باعتباره مدرسة لبناء الإنسان المتوازن عبر التربية الروحية، داعيًا إلى النهوض بالبحث الأكاديمي حول القيم المشتركة بين القضاة والمتصوفة، واقترح إصدار موسوعة وطنية حول طبقات القضاة المغاربة تتناول إسهاماتهم الروحية والقضائية.
عبد الرحيم السني، أستاذ بنفس الكلية، شدد على أن المؤسسة القضائية والتصوف يشتركان في هدف مركزي هو تحقيق الأمن الروحي والاجتماعي، موضحًا أن القاضي في السياق المغربي لا يُنظر إليه فقط كمنفذ للقانون، بل كنائب عن أمير المؤمنين، حامل لرسالة شاملة تحمي المرجعية الإسلامية وتوجه الاجتهاد القانوني نحو المقاصد الكبرى.
الندوة، التي نظمت بمبادرة من الودادية الحسنية للقضاة ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجلس العلمي الأعلى وجامعة مولاي إسماعيل، جاءت في سياق فعاليات "مهرجان عيساوة: مقامات وإيقاعات عالمية"، وقد أكدت في ختامها على ضرورة بناء نموذج مغربي متوازن يجمع بين البعد الروحي والحكامة القضائية، في إطار مرجعية وطنية تؤطر الدين والدولة في تناغم مؤسساتي.