الشيخ سيدي أحمد التجاني (1815/1737)

أضيف بتاريخ 08/21/2021
انترنت


هو أحمد بن محمّد (فتحا)، بن المختار، بن أحمد، بن محمّد، بن سالم. وكان أسالفة كلهم منتسبين لأهل العلم ومشهورين بالتقى والصلاح. أما أمّه فهي السيدة عاشئة بنت السنوسي التجاني، نسبة إلى قبيلة بنو توجين التي أعطت اسمها الذي يعرف به الشيخ سيّدي أحمد التجاني. ويصعد نسبه الأبوي إلى سيّدنا الحسن بن الإمام علي، الخليفة الرّاشد الرّابع، وحفيد النبي سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم من انته السيدة فاطمة الزهراء

عرف عنه أنه حضي بذكاء حاد وفراسة الكبار ، وحفظ القرآن العظيم في السابعة من عمره. وما بلغ الخامسة عشرة من عمره حتى أتمّ الدراسة بعين ماضي على يد الأستاذ سيّدي المبروك بن بوعافية. وقد تمكن من دراسته بـ: مختصر خليل والرسالة لابن القيم ومقدمة ابن رشد وكذلك تحصل على كل ما يلزمه من علم نحو واللغة وصار جديرا بالفتوى.

نظرا لنضجه المبكر على الصعيدين البدني والفكري، أسرع والداه في تزويجه قبل أن يلقيا وجه خالقهما إثر موت مفاجئ بالطاعون. وقد أثرت هذه المصيبة العظمى في اختيار الصبي الناسك في الميل بكل كيانه إلى البحث عن الحقيقة والتي ساقته إلى اختيار المنهجية الصوفية في سعيه الدائم إلى معرفة ربه لقوله تعالى في سورة العنكبوت: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين (69)." وقبل أن ينطلق في سفره لطلب العلم والمعرفة الظاهرة والباطنة، بدأ الشيخ التجاني بالواجب المقدّس في نشر العلم في مسقط رأسه، حمدا وشكرا لربّه القائل، " لئن شكرتم لأزيدنكم ".

وبعد مضي ثلاثة سنوات قضاها في التعليم بعين ماضي، قام الطالب سيّدي أحمد التجاني بجولة طويلة بين 1758 و 1763 م، قطع فيها ربوع الصحراء وبلاد المغرب الأقصى قاصدا مراكز العلم وملتمسا للمعرفة والحكمة من أربابها. وخلال هذه الفترة، أخذ الطريقة القادرية وأجيز فيها بمدينة فاس وكذلك أذن له في ذكر أوراد الطريقة الصديقية بنفس المدينة. وفي أخر هذة المدّة التقى بالولي الصالح سيّدي أبي الحسن الونجلي، الذي بشره بنيل مقام الشيخ سيّدي أبو الحسن الشاذلي وقال له أن مكان بلوغك مقام الفتح هو بالصحراء، دون أن يحدّد له عين المكان. إثر هذا النباء، رجع سيّدي أحمد التجاني من بلاد المغرب واستقرّ بزاوية أولاد سيّدي الشيخ الكائنة بقرية الأبيض سيّدي الشيخ، ومكث بها خمسة سنوات (1763/1767). ثمّ ارتأى أن يذهب إلى مدينة العلم تلمسان التي مكث بها خمس سنوات (1768/1772)، قضاها في التدريس. وفي سنة 1773 م عزم على أداء فريضة الحجّ. فمرّ بجبل جرجره بالقبائل الكبرى حيث زار الولي الشهير أبي عبد الله سيّدي محمّد بن عبد الرّحمن الذي لقنه الطريقة الخلوتيه التي أجازه فيها الشيخ الحفناوي الذي كان أجاز فيها أيضا شيخ الإسلام سيّدي محمود الكردي المقيم بالقاهرة. ثمّ واصل سيره نحو تونس مرورا ببجايه. وفي العاصمة تونس حيث مكث بضعة أشهر درّس بالجامع الأكبر الشهير بجامع الزيتونة، فأفاد وأفيد من قبل أهل العلم والصلاح. ثمّ واصل سيره نحو الشرق مرورا بمدينة سوسه التونسية قبل أن يصل إلى القاهرة العاصمة المصرية. وبها، كانت له ملاقات مع كبار أهل العلم والمعرفة وعلى رأسهم الشيخ سيّدي محمود الكردي (1715/1780) سابق الذكر، الذي أكرم مثواه وأفاده بعلوم وأسرار وأوصاه بأشياء تفيده في أداء مناسك حجّه وبشره بنيل المرام. وفي مكة المكرمة، تمّ له الإتصال بالواسطة مع الولي الصالح الشهير سيّدي أحمد بن عبد الله الهندي الذي منحه أسراره العلمية والمعرفية ودعا له بالخير وأوصاه. وفي يوم الإثنين التاسع من ذي الحجّة الموافق لـ 20 فيفري 1774 م، كان الوقوف بجبل الرّحمة بعرفه حيث وقف أبو الأنبياء سيّدنا إبراهيم خليل الله عليه السلام ووقف سيّد الأنبياء وخاتم المرسلين سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم. وبعد إتمام مناسك الحجّ المبرور، شدّ الرحيل إلى مسجد نبي الرّحمة للعالمين صلى الله عليه وسلّم وزار قبره الشريف وصلى وسلم وبلغ المنى. ولم يفارق المدينة المنوّرة حتى التقى بالولي الصالح أحد مشائخ القادرية، سيّدي محمّد بن عبد الكريم السمّان (1718/1776) الذي منحه ما شاء الله من علوم وأسرار وبشره بعلوّ المقام. وعند عودته إلى القاهرة أبهر جموع العلماء والصلحاء الذين شهدوا له بما فتح الله عليه من علوم وأسرار المعرفة. وأجازه الشيخ سيّدي محمود الكردي بالتلقين في الطريقة الخلوتية رغم تحفظه ودعا له بالخير والصلاح وفارق مصر راجعا إلى أرض الوطن الجزائر حيث وصل في أخر 1774 م إلى مدينة العلم تلمسان حيث تعرف على أوّل أصحابه ومريديه وأمني سرّه الفقيه العلامة الشيخ سيّدي محمّد بن المشري السائحي الطيباتي من عمالة تقرت، صاحب كتاب "روض المريد الفاني" ومؤلف الكتاب " الجامع ". ولقنه الطريقة الخلوتية وبقي ملازما له بتلمسان لمدّة سبعة سنوات (1775/1781). وخلال هذه الفترة قام سيّدي أحمد التجاني بزيارة لفاس سنة 1777 م. وفي طريقه التقى بمدينة وجده الحدودية مع تلميذه الثاني والممتاز العارف بالله سيّدي علي حرازم ولقنه الخلوتية وطلب منه أن يبقى ملازما لها حتى يأتي أمر الله. وفي سنة 1781 م رحل سيّدي أحمد التجاني ورفيقه سيّدي محمّد بن المشري من تلمسان إلى قصر أبي سمغون بولاية البيّض في الجنوب الغربي الجزائري. وفي هذا القصر ذات يوم من أواخر سنة 1781 م (1196 ه)، بلغ مراده الذي بشره به سيّدي أبو الحسن الونجلي قبيل نحو عشرين سنة مضت. فكان الفتح الأكبر المفاجئ حيث صرّح بأنّه رأى سيّد الوجود سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم، في حالة اليقضة[1]. وأفضل أن أنقل لكم ما كتبه سيّدي علي حرازم في كتابه "جواهر المعاني وبلوغ الأماني" الذي طبع سنة 1929 بالمطبعة الأزهرية بمصر، ص_43:

" …ارتحل إلى ناحية الصحراء سنة سبحانه وتعالى وتسعين ومائة وألف ونزل بقرية القطب الكبير سيّدي أبي سمغون، …، وأقام بها واستوطن وفيها وقع له الفتح وأذن له صلى الله عليه وسلّم في تلقين الخلق بعد أن كان فارا من ملاقات الخلق لاعتنائه بنفسه وعدم ادعاء المشيخة إلى أن وقع الإذن منه يقظة لا مناما بتربية الخلق على العموم والاطلاق وعيّن له الورد الذي يلقنه في سنة 1196. عيّن له صلى الله عليه وسلّم الاستغفار والصلاة عليه صلى الله عليه وسلّم. وهكذا كان أصل الورد في تلك المدّة إلى رأس المائة كمل له الورد صلى الله عليه وسلّم بكلمة الإخلاص. فعند هذا، تنزّل للخلق والإفادة وإظهار الطريقة والاستفادة. وهذا بعد إخباره له بعلوّ مقامه وارتفاع قدره ومكانه وأخبره عليه الصلاة والسلام بفضل هذا الورد وقدره وما أعده الله لمن أحبه من اتباعه وحزبه وسيأتي إن شاء الله مبينا مفصلا في بابه. ولما أذن له صلى الله عليه وسلّم في هذه الطريقة الأحمدية والسيرة المصطفوية النبوية، وفتح الله له على يديه صلى الله عليه وسلّم وأخبره أنه هو مربيه وكافله وأنّه لا يصله شيء من الله إلا على يديه وبواسطته صلى الله عليه وسلّم. وقال له: لا منة لمخلوق عليك من أشياخ الطريقة. فأنا واسطتك وممدّك على التحقيق، فاترك عنك جميع ما أخذت من جميع الطريق وقال له ألزم هذه الطريقة من غير خلوة ولا اعتزال عن الناس حتى تصل مقامك الذي وعدت به وأنت على حالك من غير ضيق ولا حرج ولا كثرة مجاهدة واترك عنك جميع الأولياء". وأضاف له فيما بعد بأن من شروط هذه الطريقة الإنفراد بها وعدم ترك وردها إلى الممات. وعلى كل، عرفت الطريقة التجانية انتشارا قويا في ظرف ستة سنوات حيث بلغت منطقة سوف في الجنوب الشرقي الجزائري، بواسطة أوّل مقدّم للناحية، سيّدي محمّد الساسي القماري المتوفى سنة 1825 م. وقد أمر الشيخ سيّدي أحمد التجاني جماعة من أهل سوف وفدوا لزيارته سنة 1788 م، ببناء زاوية بقمار. وتمّ تشييدها سنة 1789 م في موقعها الحالي الذي كان يمثل نقطة عبور للراحلين إلى تونس لطلب العلم بجامع الزيتونة أو القاصدين الحجّ إلى بيت الله الحرام. وأثارت سرعة انتشار هذه الطريقة الجديدة، مخاوف السلطات العثمانية ببايليك الجزائر[2] ووهران. وأدى بهم تخوفهم إلى إصدار تهديد شديد اللهجة لأهل قصر أبي سمغون لإخراج الشيخ سيّدي أحمد التجاني من بين أظهرهم إذا أرادوا السلامة من بطشهم. فعند هذا التهديد، فضل الشيخ سيّدي أحمد التجاني الخروج من هذا القصر رغم احتجاج أهله الذين ناشدوه بالبقاء معهم ووعدوه بحمايته بأموالهم وأرواحهم، إلا أنه فضل لهم العافية شفقة بهم وخرج في 28 من شهر أوت 1798 قاصدا مدينة فاس التي دخلها يوم 17 سبتمبر من نفس السنة. ووجه سيّدي أحمد التجاني رسالة إلى مولاي سليمان سلطان المغرب ليستأذنه في الإقامة بفاس. فأجابه إلى مطلوبه ولكن استدعاه إلى مناظرة كبار العلماء بفاس على مختلف مذاهبهم وأمزجتهم. وبعد جهد ومجاهدة، تبين مقامه السامي في شرف العلم وشرف الولاية الربانية، فأذعنت أولوا العرفان. وبالتالي صار مولاي سليمان من بقية مريديه بعد تلقينه الطريقة التجانية. وهكذا استقرّ الشيخ سيّدي أحمد التجاني مدينة فاس مدّة 17 سنة (1798/1815) بعدما قضى 17 سنة بأبي سمغون بالجنوب الجزائري (1781/1798). واستفاد الشيخ سيّدي أحمد التجاني من إقامته بفاس التي كانت تعدّ أنذاك أوّل مركز للتعليم العالي بحكم نشاط جامعة القرويين التي أنشأت سنة 860 م وتعتبر أقدم جامعة في العالم الإسلامي. وبالفعل انخرط في طريقته الكثير من خرجي القرويين مثل سيّدي الطيب السفياني وسيدي محمّد الغالي وغيرهم وصاروا من أركان الطريقة. ولم تمضي شهرين من إقامته بفاس حتى صدر الأمر من الشيخ التجاني إلى صاحبه الأول سيّدي علي حرازم بجمع تعاليمه التي دوّنها بعض أصحابه من خلال إملاءاته. وبدأ في جمع المعلومات حول منتصف شهر نوفمبر 1798 م. وشق عليه أمر هذا التكليف نظرا لكون أغلب المخطوطات المدوّنة بكلام الشيخ سيّدي أحمد التجاني كانت قد أحرقت من ذي قبل بأمر من مؤسس الطريقة الذي كان يخشى كثرة الجدال والفتنة. ولكن بعدما ضمن له الرسول صلى الله عليه وسلّم سلامة العاقبة، كلف سيّدي علي حرازم بهذه المهمّة الصعبة، دون سواه. وفي أوّل أفريل من سنة 1800 م تمّم سيّدي علي حرازم كتابة كتابه الشهير "جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيّدي أحمد التجاني" والمعروف عند الكثير بالكنش أو الكناشي. وقرأه الشيخ سيّدي أحمد التجاني وأقرّ ما جاء فيه وصادق عليه بخط يده. وبعد ذلك أجاز سيّدي علي حرازم بأعلى مرتبة في طريقته وأمره بأداء فريضة الحجّ وكلفه بتربية بعض الأصحاب في طريقه إلى البقاع المقدسة. ومن الذين انخرطوا على يده في سلك الطريقة التجانية، العلامة الشريف سيّدي إبراهيم الرياحي مفتي الديار التونسية، وتمّ ذلك سنة 1802 م. وبالقرب من بيت الله الحرام التقى سنة 1803 م (1217 ه)، سيدي علي حرازم بالعلامة سيّدي محمّد الحافظ العلوي الشنقيطي ودله على مؤسس الطريقة التجانية ليأخذ عنه. وأخذ عنه الطريقة التجانية في نفس السنة بفاس حيث مكث بين يديه مدّة التربية التي توّجت بإجازة في تلقين الطريقة وتعيين عدد محدد من المقدمين. وقام الشيخ سيّدي محمّد الحافظ بنشر الطريقة في موريتانيا ومنها انتقلت إلى إفريقيا على يد مولود فال (1774/1818) من ترارزا الذي لقن سيّدي عبد الكريم بن أحمد النقيل الفوتي الذي لقنها للحاج عمر الفوتي سنة 1825 م. وبالمدينة المنوّرة التقى هذا الأخير بأحد أكابر مقدمي الطريقة التجانية ومن خاصة المقربين من مؤسسها، الشريف العلامة سيّدي محمّد الغالي الذي نشر مدّة حياته هناك الطريقة التجانية وأجازه إجازة مطلقة وكلفه بنشر الطريقة في بلاده وأشار عليه بتأسيس دولة. وبالفعل وفق الشيخ الحاج عمر الفوتي من تأسيس دولة تجانية ما بين 1846 و 1864 م تاريخ وفاته. وقد شملت هذه الدولة الفتية ما يقارب من اثنا عشرة دولة إفريقية حالية تمتدّ من مالي إلى غانا مرورا بالسنغال ونيجر ونيجريا ووسط إفريقيا. واصطدمت هذه الدولة مذ نشأتها بقوات الاحتلال الفرنسي بقيادة الكلونيل أرشينار والانجليزي. ودمّرت هذه الدولة وقتل الآلاف من رجالها وهاجر إلى البقاع المقدسة، الكثير من أكابر رجالها ومن ضمنهم الشيخ العلامة الفقيه الفا هاشم (1866/1939) ابن أخ الحاج عمر الفوتي. ولكن أعطت رغم قصر عمرها، دفعة قويّة لنشر الطريقة التجانية في وسط وغرب إفريقيا والتي بقيت في التوسّع رغم مخططات الاستعمار الأوروبي.


[1] جاء في الحديث رقم 6592 من صحيح البخاري: " من رآني في المنام، فسيراني في اليقظة. ولا يتمثّل الشيطان بي." وجاء في الحديث رقم 6593: " من رآني في المنام فقد رآني، فإنّ الشيطان لا يتخيّل بي، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوّة."

[2] في عهد الداي مصطفى باشا الذي بدأ حكمه سنة 1795 وانتهى باغتياله سنة 1805.